الأربعاء، 24 أغسطس 2011

البعث العابر للأجيال او صناعة العقدة المدورة

مهند يعقوب


هناك مجموعة من الحقائق المرتبطة بالحروب التي حصلت في تاريخ العالم  تحولت فيما بعد الى ميثلوجيا وعقدة مضاعفة ، ويعود السبب في هذا التحول الى عوامل عدة ، منها ما هو مرتبط بارادة المنتصر وموهبته المرهفة في صناعة الاوهام ثقافياً واعلامياً ، ومنها ما يتعلق بهشاشة المهزوم ذاته وقابليته على الاطاحة بنفسه ، خاصة بعد انتهاء تلك الحرب لصالح منافسيه ولو بعد مرور عقود زمنية طويلة ، مما يسمح بحضور وفاعلية تلك العقدة . وبالتالي تنعكس على شكل تنازلات للطرف الرابح سياسياً واقتصادياً وحتى جغرافياً ، وايضاً تنعكس على شكل عقوبة سايكلوجية جماعية يبقى المجتمع يعاني منها لحين توفر فرصة تاريخية للنسيان المهذب .

يُعد الهولوكوست النموذج الأبرز من بين تلك الأساطير التي كان من نتائجها اقامة دولة ذات مواصفات اصولية دينية وعسكرية خاصة . وتكريسه اي الهولوكوست ليس وسيلة لادانة هتلر والنازية فقط  وانما هو سعي لتأصيل العقدة النازية لدى الألمان أنفسهم .

ان الشخصية الألمانية لا تستطيع الفكاك من هذه العقدة بل امتدت الى الاجيال التي لا علاقة لها بشكل النظام السياسي آنذاك ولا تنتمي الى ايديولوجيته . ويعتبر فيلم  " القارئ " للمخرج " ستيفن دالدراي " النموذج الأهم الذي يعكس هذه العقدة بوضوح ، من خلال المحاكمة لـ " كيت وينسلت " المتهمة التي انفضح أمرها بعد صدور كتاب الناجية الوحيدة من المجزرة . والفيلم رغم التضمينات الفنية والتعبيرية الهائلة التي يحتويها بعيداً عن السياسة ، يركز على هذه العقدة من خلال الادانة والمحاكمة التي جاءت عملاً بمبدأ  " الأثر الرجعي " الذي تغذيه تلك العقدة المتلازمة .

عراقياً فنحن امام عقدة جماعية مماثلة في بعض الجوانب تغذيها أساطير الحرب مع ايران والكويت وهذه الاخيرة تسعى دائما للاستفادة من هذه العقدة بكل السبل ، ويجب ان تبقى حاضرة على جميع طاولات الحوار والتفاوض في المحافل الدولية والاقليمية ، حتى بعد عام 2003 وزوال النظام الدكتاتوري في العراق .

اعتمدت الكويت دائماً الابقاء على أسطورة الاسرى والديون المترتبة على العراق جراء حرب 1991 وستبقى تعتمد على هذه الملفات لتأصيل هذه العقدة لدى العراقيين وابقائها تدور على مدى أجيال متعاقبة ولكسب المزيد من الربح ايضاً. انها العقدة البعثية التيساهم صراع " الاخوة كرامازوف " داخلياً بعد عام 2003 على تعميقها أكثر من أي طرف آخر، هذا الصراع الذي أخذ كل أشكال الاختلاف والتعسف ، ولم يأخذ اي شكل واحد من أشكال الحوار والاتفاق ، خاصة وان مرحلة ما بعد النظام الهمجي ينبغي ان تكون مقطوعة عما سبقها من ممارسات مشوهة وعلى كل المستويات وهذا ما لم يحصل !.

ساعد كثيراً الذهن العراقي الآخرين على استقبال هذه المغذيات منهم ويصنعها لنفسه بعناية اذا لزم الأمر ، لان محيطه السياسي والاجتماعي والثقافي مليء بالاشارات العميقة التي تنتمي لذلك التاريخ الجنائزي ، ولا يمكن مغادرة هذه الحقبة لعجز الجميع عن الاتيان بالفكرة البديلة .

لقد اجتمعت جميع الارادات السياسية عراقية واقليمية على صناعة هذا المرض وترسيخه . داخلياً من أجل الكسب والتربح الحزبي والشخصي ، وخارجياً من أجل تقديم المزيد من التنازلات لصالح طرفي الحرب مع العراق ، سواء على صعيد ظهور ما يسمى بالآبار النفطية المشتركة او الصراع على المنفذ الحدودي البحري الوحيد للعراق والذي منه الازمة الاخيرة مع الكويت .

حيث تحول الخطاب الذي يتبناه بعض الملتزمين بقول " ربع الحقائق " فيما يتعلق ببناء ميناء مبارك وماراثون الديون ، الى خطاب رومانسي أكثر مما هو خطاب يرتبط بالقانون الدولي وابرام المعاهدات والاتفاقات الرسمية للحفاظ على مصالح وحقوق الدول المختلفة وعدم المساس بها مستقبلاً . لدرجة ان أحد الشخصيات السياسية العراقية والداخلة في الانتخابات الاخيرة تحت لافتة تيار سياسي ، يتحدث عن الازمة العراقية الكويتية بمزيد من التقريع والتوبيخ لذاته الجماعية رغم انه كان معارضاً للنظام السابق . ان توصيفات " ناعم ، وخشن " " حبوب ومهتلف " الواردتين في خطابه للتفريق ما بين الكويتي والعراقي ، تنطوي على مكنون نفسي يتسم بالدونية والشعور بالحيف والمرارة الزائدة ، أكثر مما هو رأي  يتعلق بالاجراءات الفنية والقانونية لفهم وحل تلك الازمة .

كذلك فان قراءة متانية لبعض الصحف العراقية حول ذات الأزمة ، يكشف حجم هذه العقدة المتجذرة في النفوس على النحو المدني والثقافي والسياسي . فالشحنات النفسية المرتبكة في خطاب بعض المثقفين والأدباء العراقيين مثيرة للشفقة ، للحد ان مشكلة ترتبط بالدولة العراقية حديثاً وبمصالحها ، يتم الحديث عنها كجزء من مرحلة سياسية وايديولوجية سابقة  تتعلق بشكل النظام السياسي مسبقاً وبممارساته الخاطئة ، ويتحمل مسؤوليتها كل العراقيين ، بما فيهم الاجيال المحايدة والتي ستجيء مستقبلاً ، متناسين الحديث عن شكل الازمة وسبل حلها بعيداً عن الأخذ بمنطق الأثر الرجعي . ومن ثم يكشف هذا الخطاب مستوى التداخل بين القضايا المتعلقة بالقانون وكيان الدولة ، والقضايا المتعلقة بالمجاملات الاجتماعية التي لا تخلو من التراجيديا والمديح الفضفاض للطرف المسكوت عن اخفاقاته !.

يعود هذا الخلط والتداخل لرسوخ العقدة ذاتها في كيان العراقيين ،الذين ما ان تحصل ازمة مع اي من دول الجوار تتعلق بمستقبل العراق ومصالحه ويمكن حلها بالطرق الفنية والقانونية والسياسية ، حتى يتسارعوا بطريقة لا واعية للحديث عن حروب نظام حزب البعث بدون مناسبة ، ويضعون المزيد من الطين على جباههم بسبب اجتياحات بربرية لم يكونوا اطرافاً فاعلين فيها ، بل لم تكن الاجيال التي تلت 1980 و 1990 جزءا منها . انها عقدة عابرة للأجيال ومدورة ، يسعى صانعو العقد والميثلوجيا السياسية الجديدة محاصرة الطرف الخاسر بها دائماً وحبسه داخل أقواسها ، لكسب المزيد من الربح واغراقه بمزيد من الشعور بالعار وتبني الرومانسية المخجلة لحل المشكلات .