الأربعاء، 17 مارس 2010

فيلم الرحيل الياباني .. إحتفاء بالموت والحجارة

مُهنَّد يعقوب

يرى بعض الفلاسفة الوجوديين " ان ما يرعب ليس الموت ذاته وانما فكرة الموت " وهو الحقيقة غير القابلة للتسويف أوالافتراض من حيث وجودها وحضورها الاكيد كفصل قريب كما يعبر المناطقة يخص الكائن الحي ويرتبط به منذ البدء ارتباطاً لازماً بالمعنى المنطقي لمفهوم اللازم , الا ان الموقف من هذه الحقيقة الساطعة كفهم وتعايش وتفسير وفشل في السيطرة عليها والتحكم بها , جعلها فكرة مقلقة ومخيفة بالنسبة للانسان على مر العصورابتداء من الانسان الاول مروراً بكلكامش وانكيدو وانتهاء بعصرنا هذا وما سيليه , لانها وحسب التصورات الفلسفية المادية تعني الفقد النهائي والذهاب الى اللاشيء أو تساوي العدم , بل هي فكرة مرعبة ايضاً حتى بالنسبة للتصورات الميثلوجية والدينية القديمة رغم تأكيد هذه الفلسفات الدينية والميثلوجية على تفسير معنى الموت كامتداد للحياة بحضورأكثر كثافة وسطوع وطمئنة أو امتداد لعوالم أخرى ممكنة تقع بين عالم الموت وعالم الحياة وهي عوالم لا تختلف تعقيداً وغموضاً عن عالم الموت نفسه , لكن في النهاية يبقى الخوف والرفض هو المسيطر الوحيد على الانسان في مواجهة حقيقة كهذه . وفي ظل هذا الاحتدام المادي والغيبي التأويلي والفلسفي لمعنى الموت تبرز من بين تلك المناطق المعرفية منطقة جمالية ومعرفية أخرى للاقامة في هذا الموضوع شرحاً واقترحاً له من زوايا متعددة , ترتبط بماهيته أو التلميح لها بعناصرغير مباشرة أو التقاط ما يمت لفكرة الموت بصلة وثيقة تترك أثرها في ايضاح هذا المعنى وكشفه , وكيف يمكن النظر له كفكرة مجردة من جهة ومن جهة أخرى تفسير الموقف وردت الفعل منه انسانياً ومجتمعياً , ومن الانسان الذي يسقط عليه الموت وكيف تصبح هويته ميتاً وطعمه في رأي العام والخاص بين الناس والمجتمع , ورايهم كذلك حول المهن المرتبطة بالموت والموتى كالتكفين والتطهير وما الى ذلك , حيث تقدم لنا السينما العالمية اقتراحات متعددة حول اعادة تأهيل الانسان للتصالح والتعايش مع الافكار القهرية والقاسية كفكرة الموت وكيفية صناعة الهدوء الداخلي في استقبال حتمية من هذا النوع وافراغ مستوى الرعب الشديد فيها وتخفيف حدته على نفس الانسان وحياته , مع ان اقتراح من هذا النوع ليس جديداً على الانسان فهو مخاطب بهذه الحقيقة الحتمية على الدوام سواء تناولتها السينما او تناولتها مناطق معرفية أخرى كالفلسفة واللاهوت او الميثلوجيا والشعر وغيرها من المغامرات المعرفية والجمالية التي تبحث في القضايا المهمة والجوهرية المتصلة بحياة الانسان , لكن تتفرد السينما كونها صورة وحركة وفي هذين العنصرين مكانة توصيلية كثيفة وعميقة تتجاوز اللغة لوحدها بوصفها علامة أواشتغالاً مهما كان عميقاً يكون في اطار ساكن , والفرق بينهما هو كالفرق بين ان يتعلم الانسان من الطبيعة والحركة وبين ان يتعلم من اللغة كتوصيل وتلقي . ونحن هنا لا نريد تغليب جانب على آخر من حيث الاهمية في الرتبة بين السينما وبقية الحقول المعرفية والجمالية بشكل اعتباطي وانما اعطاء ما للسينما من امكانات سهلة ومتعددة على التوصيل تفوق بقية الاشتغالات , وامكانية التوصيل لها أثرها في تحقيق مقاصد خاصة وأعني بالمقاصد الخاصة تصوير ما ليس بمرئي ومكشوف بالمقارنة والتشبيه والتقريب بالاثر المادي بصرياً , والانسان في الحقيقة بحاجة ماسة الى ان يمتلك تصوراً فيزيقياً معيناً حول كل شيء حتى وان كان زائفاً أو غيبياً كحقيقة أو فرضية القيامة والجنة والجحيم وحول ما يمكن حدوثه من رعب وكوارث غير متوقعة لا نملك معرفة كافية عنها , فالصورة والحركة لا تمنع وقوع المخيف ولا تؤجله وانما تخفف حدته على المخاطب به وتمتص رعب الحدث القاسي والمفاجئ بقوة وتأثير أكبر, والسينما تتميز بهذا كله كما انها تشترك وتتفاعل مع الاجناس الابداعية والجمالية ذات التوصيل بالكتابة واللغة في عموم الافكار .
يأتي الفيلم الياباني " الرحيل " 2008 ضمن سلسلة افلام تناولت موضوع الموت والموتى وما يرتبط بهم من طقوس وممارسات انسانية ودينية متنوعة , وهو من اخراج " يوجيرو تاكيتا " بطولة الممثل الجميل " ماساهيرو موتوكي " ديجو كوباياشي عازف آلة التشيلو و " رايكو هيروسو " ميكا زوجته , حاز الفيلم الذي كتبه " كوندو كوياما " على الاوسكار عام 2009 كأفضل فيلم بلغة أجنبية , يتميزهذا الفيلم بالاسلوب الواضح والمباشر في تحويل واحدة من أكثر الأفكار خوفاً ورفضاً الى فكرة انسانية شعرية محببة وبسيطة كفكرة الموت وما يرتبط بها من مهن هي في نظر أغلب المجتمعات الانسانية مهن محتقرة وأصحابها محتقرون لانها ترتبط بالدوني والوضيع حسب اعتقاداتهم الدينية ومورثهم الاجتماعي ووعيهم حول الطبقات , واشتغال من هذا النوع يتطلب حرفية ومهنية فنية عالية يقول فان كوخ في رسالته الاخيرة لاخيه ثيو " للأشياء القبيحة خصوصية فنية قد لا تجدها في الاشياء الجميلة وعين الفنان لا تخطئ ذلك " والرحيل قدم لنا انزياحاً جمالياً مبهراً في تناول موضوع الموت من خلال مهنة التكفين التي كان يمارسها ديجو ورئيسه في العمل باناقة وشعرية فائقة جعلت ذوي الراحلين يشعرون بالرضا والتصالح أكثر مع الموت بعد ان كانت هذه الفكرة عند الاحياء بمثابة الاهانة وهي تحصد أرواح المقربين منهم ومحبيهم , وفي هذه الثيمة داخل الفيلم تعزيز لفكرة جوهرية تخص طعم وهوية الانسان ميتاً , فالموت عندما يقع على شخص ما يسلبه عنصرالصراع والمنافسة المتوفرة على مستوى الحياة بين الافراد والجماعات , والمنافسة بالمعنى الانساني والحياتي تتجاذبها صفات انسانية ايجابية عميقة وقد تتجاذبها صفات سلبية كثيرة نراها في حياتنا اليومية ربما تصل هذه المنافسة السلبية لان تتخذ اشكالاً وسلوكيات متعددة كالقتل والنبذ والاحتقار والكره , وفي الموت خروج الانسان من لعبة الحياة والمنافسة بين الاحياء الى عالم آخر يمنحه هذا العالم صفة ومكانه مختلفة تحددها طبيعة الوجع والشعور العميق بالفقد وكأنه يستنهض مشاعر مؤجلة او مطمورة لدى الاحياء لم تكن مستيقظة لديهم في حالة حضوره حياً , تسقط معها جميع الاعتبارات السيئة التي اكتسبها الجميع في لعبة الحياة , وفي هوية وطعم الانسان ميتاً فكرة أخرى مضمرة تكشفها ايضاً مشاعر الشفقة والوجع والفقد التي تستعمر أنفس الاحياء اتجاه الراحلين وهي الاعتقاد أو الوهم السائد ان من يقع عليه الموت يصبح خارج الحيز النظيف باعتبار الحياة هي اشرف العوالم الممكنة ويترتب على ذلك ان تكون منطقة الموت منطقة فاسدة تتطلب التطهير مجرد وقوع الموت نفسه , لكن الفيلم يعكس هذا التصور ويعد فكرة التطهير من الحياة وليس من الموت لاستقبال عالم آخر يتطلب التنقية من عالم يسبقه اي الحياة ذاتها , فالتكفين والتطير للميت من الحياة وليس من الموت , وكما عبر مدير شركة ان كي للتكفين داخل الفيلم " يرمز التطهير للتخلص من عناء هذا العالم وآلامه وشهواته ويرمز ايضاً للاستحمام الاول لولادة جديدة " وفي هذا الاشتغال التأويلي معنى عميق لفكرة طالما أثارت جدلاً فلسفياً وجودياً ودينياً واخلاقياً على مر التاريخ يخلص منها ليس بالضرورة من يستند الى مقولات دينية وعقائدية مقدسة وانما من يمنح الفكرة معنى جمالياً وانسانياً يتسم بالسلم والمحبة والتسامح والموضوعية .

يحتوي فيلم الرحيل على انسجام وتناغم شعري مدروس بعناية فنية فائقة ومتداخلة ليس من جانب الاسلوب فقط وجمالية الصورة وانما من جانب العلاقات البسيطة والكثيفة بين المهن والاعمال والحياة الانسانية خارج العمل , حيث لم تختلف شعرية وجمال آلة التشيلو عن شعرية وأناقة مهنة التكفين وعن شعرية الحجر في لقطة الرسائل الحجرية أو حجر المشاعر, فكانت هذه اليوميات الانسانية والحياتية المتجسدة بشخصية ديجو متوحدة ومنسحمة ككل خارج من خلية واحدة مع انها قد تبدو للوهلة الاولى ذات فصول مختلفة ومتغايرة من حيث الطبيعة والدور لكنها ليست كذلك , فبعد ان أعلن مدير الاوركسترا التي كان يعمل فيها ديجو كوباياشي في طوكيو فصل الاعضاء انتابه شك ان يكون حلمه يتحقق مع آلة التشيلو كعازف محترف في تلك الاوركسترا مثلما كان يرغب والده بذلك منذ ان كان صبياً , وهذه الحادثة جعلت حلمه يتحول الى كابوس خصوصاً ان عليه ديون كثيرة متعلقة بشرائه تلك الآلة بثمن ليس بسيطاً وكذلك جعلته يخاطب نفسه بكثير من عدم الرضا والتوبيخ " هذه الكمنجة لا ذنب لها والسبب ان من اشتراها هو شخص فاشل مثلي فقد خسرت وظيفتها " يقرر بعد حادثة فصله من الاوركسترا بيع الكمنجة والعودة الى المنزل الذي تركته له والدته بعد وفاتها في ريف ياماغاتا " اعتقد انها كانت أكبر نقطة تحول في حياتي ولكن لسبب ما فقد شعرت براحة في اللحظة التي تركت فيها الكمنجة , وكأنه قد اطلق صراحي فجأة بعد ان كنت مربوطاً , ما كنت اعتقد انه حلمي .. ربما لم يكن حلمي الحقيقي " الا ان الكمنجة لم تتوقف عن الحضور بعد هذا الجزء الدرامي ولم يلغ دورها عمله الغريب والجديد في قريته الام ياماغاتا كموظف في شركة تكفين الموتى بل عثر على نفسه فناناً حقيقياً خارج تلمسه الاعمى قبل حصوله على هذا العمل , والمخرج أعتمد بموهبة فذة تضمين فكرة مفادها ان بعض التجارب الحياتية خاصة يتوقف عليها رسم ما عليه الانسان من خطأ أو صواب حول طبيعة وجوده في الحياة وتحقيق مقاصده وطموحاته الانسانية المشروعة , فبعض التجارب ان لم نمر بها تصاب حياتنا بالتلف الكامل بما فيها التجارب السابقة التي نعتقد انها تساوي طموحنا في الحياة , وهذه التجارب الخاصة لا تُصلِح فقط حياتنا من تاريخ وقوعنا في هذه التجربة وانما تُصلِح ما مضى منها ايضاً , والصدفة الذكية التي قادت ديجو لان يعمل في شركة لتكفين الموتى عن طريق اعلان في صحيفة بالخطأ قادته في الحقيقة الى الخريطة الحقيقية لذاته وطريقة عملها بالشكل الانساني المختلف اهلت لديه ما فسد من حياته للاصلاح كعلاقته بوالده المضطربة مثلاً وتصحيحها اوعلاقته بآلة الكمنجة والحياة عموما الى القبول واعادة النظر بها بشكل مختلف , وفي لقطة الحجرالكبيرالذي اخرجه من الكمنجة التي كان قد اشتراها له ابوه ايام كان صبياً استذكار لموقف الاب المتخاذل اتجاه ابنه كما يعتقد ديجو , وتظل لقطة الرسائل الحجرية تتكرر في متواليات الفيلم البسيطة والشعرية بدلالتها الرمزية والانسانية العميقة كترابط ومشاعر حسب حجم الحجر وملمسه كما في مشهد مخاطبته لزوجته ميكا بعد ان قدم لها حجراً صغيراً أملساً " في العصور القديمة وقبل ان يخترع البشر الكتابة كانوا يبحثون عن الاحجار التي تمثل مشاعرهم ثم يعطونها لشخص آخر, والشخص الذي يحصل على هذا الحجر يقرأ مشاعر الشخص الآخر عن طريق وزنها وملمسها , مثلاً الملمس الناعم يرمز للروح المسالمة والملمس الخشن يرمز للاهتمام بالآخرين " وهكذا حتى في اللقطة الاخيرة من الفيلم اثناء قيامه بتكفين والده وجد حجراً صغيراً أملساً بين يديه أسعف في نفسه صورة الاب الغائب عنه لسنوات طويلة , تاركاً لنفسه تحري مكامن الفقد والوجع كما لو انه للتو قد انفصل عن أبيه , وعمله الاخير يُعد تجربة كان لابد ان يمر بها ديجو لاهميتها في ترتيب حياته الماضية واللاحقة وكأن هذا العمل هو ارتباط واستعادة لمكانة الكمنجة في نفسه واستعادة لصورة الاب الذي تركه وأمه وهو في سن السادسة من عمره من أجل امرأة أخرى , فكانت هذه التجارب المتوالية والمتداخلة في حياته كل واحدة تفضي الى الأخرى ومشتقه منها وتقيها من الفشل والانهيار, وعمله في التكفين يعد التجربة الاهم في تحقيق هذا التداخل مع بقية التجارب واصلاحها رغم ان عمله هذا وضعه في مواجهة تحديات صعبة امام نفسه في البداية وزوجته والمجتمع في رفضه لمهنة محتقرة لديهم وصل لحد ان هجرته ميكا بعد ان وصفته بالقذر في حوارها معه اثناء اكتشاف أمرمهنته الجديدة وكذللك موقف صديقه الموظف الحكومي السلبي كان للسبب نفسه بل وصل الامر في واحدة من اللقطات المثيرة اعتباره شخصا يعمل في هذا المجال للتكفيرعن ذنب عظيم اقترفه في حياته , الا ان ديجو تلمس ما لهذا العمل من مكانة وقوة تأثيرعلى حياته الشخصية جعلته مدركاً على ماذا ينطوي معنى عمله الانساني في الحياة وانعكاساته الايجابية على مستقبله , وقد ساعده في ادراك هذا المعنى ايضاً رئيسه في العمل ذلك الشخص التأملي الهادئ والرصين الذي يشتغل بقوة الحدوسات كما وصفته الموظفة التي تعمل لديه في مكتب الشركة وكإن عمله في تكفين الموتى أكسبه حكمة ووقاراً فائقاً مثلما اكسبت هذه الفكرة الفيلم مكانة فنية مرموقة في تناول موضوع جوهري وانساني كبير كهذا بتقنية واسلوب وتوصيل وذائقة شعرية مبهرة استحق من خلالها ان يكون أحد الاعمال السينمائية العالمية بامتياز.



العودة الى التوازن .. قراءة في موت رامون سامبيدرو

مهند يعقوب

تُعد فكرة الموت الرحيم او موت الاشفاق من الافكار التي اثارت جدلاً قانونياً وأخلاقياً ودينياً عميقاً على مرالتاريخ , تعامل معها الانسان الاول تعاملاً ينسجم مع طبيعة الذرائع الاخلاقية التي تحددها روح ذلك العصر, فكان يشفق على الافراد الذين يعانون من تشويهات وأمراض مستديمة بقتلهم انهاءً لمعاناتهم او خشية من اعاقة الجماعة التي ينتمي اليها هؤلاء الافراد عن الحركة والتنقل حسب ظروف معيشتهم , وكذلك مع الذين تستوطنهم أمراض معدية وخطيرة وغيرها من الحالات التي يستوجب فيها التعامل مع هكذا قضايا اخلاقية , تعرقل نمو وتكاثر المجتمعات الانسانية وتنقلاتها , منذ ذلك الحين ولحد اللحظة ظل الموضوع مثار اهتمام وسجال دائم . رغم التحولات المهمة التي طالت فلسفة الاخلاق والقانون والتشريعات الدينية والرؤية للحياة عموماً واختلافها من عصر الى آخر, الا انها بقيت على طبيعة قانونية وتشريعية وأخلاقية واحدة في عصرنا هذا , باستثناء بعض الدول وفي مقدمتها هولندا وبلجيكا التي أبدت مؤخراً مرونة قانونية في التعامل مع موضوعة انسانية وأخلاقية بالغة الحساسية كهذه . وما يثيرنا هنا ليس الفكرة وحدها وما أحدثته من سلوك ومواقف متابينه حيالها تاريخياً , وانما الذي يثيرنا اكثر هو الاسلوب والطريقة التي يتم فيها طرح الموضوع وقوة المبررات وتنوعها , وأعني تحديداً طاقة تناول السينما لهكذا موضوع من خلال عناصرها المتعددة والمكثفة التي لا تقل فيها الصورة والممثل والموسيقى أهمية وجمال عن اللغة شفاهية كانت أم مدونة , وهو ما يجعل الميل الى السينما وهي تتعرض لافكار انسانية وفلسفية عالية , أكثر اغراءً ومتابعة من مناطق ابداعية وجمالية أخرى نقداً ومشاهدة على السواء .


يضعنا الفيلم الاسباني " البحر في الداخل " 2004 الحائز على الاوسكار عام 2005 كأفضل فيلم بلغة اجنبية , بطولة النجم " خافيير بارديم " بمواجهة فكرة من هذا النوع , وهو الفيلم الرابع للمخرج المبدع " اليخاندرو آمينابار" بعد افلامه الثلاثة , الاطروحة او الرسالة في عام 1996 , وافتح عينيك عام 1997 , والآخرون في عام 2001 , والمتابع لاعمال هذا المخرج السينمائية يرى انه يشترك في بعض افلامه بوضع الموسيقى لها او كتابة السيناريو, كما في " البحر في الداخل " حيث كتب السيناريو بالاشتراك مع " ماتيو جيل " , وهو نص سينمائي بسيط وكثيف أبرز ما يميزه الشعر والايحاء والجدل والتخيل , يحتل فيه الموت والحب والعاطفة الانسانية مكانة مهمة كموضوعات انسانية كبيرة ومجردة - كما سنتناوله لاحقاً من دون الدخول في تفاصيل الفيلم كاحداث متوالية - ولا تقل شعرية الصورة كحركة أهمية جمالية عن شعرية السيناريو والحوارات , حيث يكاد يكون محل اقامة الكاميرا غرفة رامون سامبيدرو" خافيير بارديم " وتحديداً وجهه باعتباره المركزية في الفيلم وهو ما تطلب جهداً فنياً وجمالياً رائعاً منه في اعطاء الدور الذي يقوم بتمثيله كفاءة عالية , لانعدام الخيارات لديه في استخدام جسده واطرافه في تمثيل شخصية مشلولة الجسد والاطراف , فكان لابد من ان يحقق استرخاءً كاملاً كما عبر هو في حوار مع الـ بي بي سي , لجعل ملامح وجهه وتعبيراته مطاوعة لتأدية مثل هكذا دور, ولم يتأخر" بارديم " كما عودنا دائماً في ادائه كممثل صاحب موهبة عالية وفذة , ان يجعلنا هذه المرة ايضاً امام عمل فني يستحق المتابعة والتكريم بامتياز.


يتناول اليخاندرو قصة شاب اسباني رامون سامبيدرو, وكيف دفع نفسه لحادث ارتطام غامض برمال الساحل بعد ان كان البحر في حالة انحسار, مما ادى الى كسر عنقه واصابته بشلل انهى الحركة لديه باستثناء رأسه , ويظل يكافح لمدة 29عاماً امام المحاكم الاسبانية لإنتزاع تصريحٍ قانونيٍ يبيح له انهاء حياته المأساوية بكرامة , الا ان طلبه هذا يجابه بالرفض , مع كل المحاولات التي بذلتها منظمة حرية الموت بكرامة من خلال مندوبتها جينيه " كلارا سيغورا " وكذلك من خلال لقاءاته مع الاعلام الاسباني في حقه للانعتاق من جسده العاطل ميكانيكيا ً, لم يحصل في النهاية على التصريح القانوني من المحكمة لانهاء حياته كما يرغب أو كما تطلبه حالته الاستثنائية .

في حوار مع الـ بي بي سي يقول المخرج اليخاندرو : " لقد أدركت أنه من واجبنا أن نطلع الناس على هذه القصة، وكانت مشكلتي أن الأمر يدور حول مفاهيم مجردة، لذا تواردت إليّ أفكار جميلة حول مرحلة هذا الرجل وهو على حافة الموت، أفكار حول الحياة والحب، لكنني لم أجد سبيلي لصنع فيلمٍ، وبعد ذلك عرفت مدى قوة وتأثير الأحلام عند هذا الرجل فأدركت أنه أصبح لدي ما يُمكنني من صنع فيلمٍ سينمائيٍ بالفعل " . ومن هنا يمكن الافتراض اننا امام خيارات متعددة ومفتوحة في النظر للاسباب التي يريد رامون الموت من أجلها , ولا يمكن حصرها فقط بفكرة الفيلم العامة التي أكثر ما يحاول فيها المخرج نقلها الى الرأي العام والمؤسسات التشريعية والقانونية في اسبانيا خاصة , للنظر في هذه الحالة الانسانية واعطائها ما يناسبها كحل قانوني انساني يحتل فيها الحب والشفقة والتعقل مكانه مهمة لتحصيل قصد من هذا النوع , بل يتعدى الامر ذلك الى النظر لموضوع الموت كفكرة مرتبطة بشدة الحساسية والوعي وبرؤية شعرية وتأملية حول فلسفة الموت والحياة والموقف منهما حسب قوة المبررات وضعفها , وهناك اكثر من عنصر داخل الفيلم كلقطة او حوار يحيلنا الى هكذا نوع من الافكار المجردة احياناً والتفاعلية احياناً اخرى . فحديث رامون عن حقه في تقرير مصيره ككائن حي يتوقف على حريته هو بالاختيار وليس على القانون اوالدين كوصايا على حياة الانسان وجسده بالمعنى الالزامي , اذ الحياة من وجهة نظر سامبيدرو هي حق وليست واجباً كما تكشفه الحوارات داخل الفيلم , وفكرة من هذا النوع ليست مرتبطة كون رامون يعيش داخل جسد ميت , بل مرتبطة بالهم الانساني كسؤال جوهري وبشرط الحرية وماذا تعنيه في ظل قانون يحددها سواء كان قانوناً وضعياً ام قانوناً طبيعياً قهرياً , كالقهرية التي يولد فيها الانسان بدون ارادة واختيار منه ويكون مخاطباً بالحياة كتناقض لا يمكن احتماله , او لا معقول يصعب حله كما يقول البير كامو في اسطورة سيزيف , وحالة رامون الاستثنائية تجعل من مبررات وحساسية رفض الحياة اشد قسوة من مبررات الانسان الذي يعاني فقط من الحساسية المفرطة وعدم القدرة على احتمال تناقضات الحياة , كونه اي رامون يواجه التناقض والحقيقة بمسافة أقرب وأوضح وأعمق تاثيراً تجعل من رفضه للحياة أمراً مفروغاً منه وبديهية لا يمكن اضعافها او التغاضي عنها في سياق الفيلم لوجود متواليات أخرى تكشف هذا التجريد في النظر الى فكرة الموت والحياة كحقائق غير قابلة للتسويف والمجاملة .


قد يبدو من السياق العام للفيلم انه يتحدث عن فكرة محددة سلفاً , خصوصاً ان موضوع الفيلم هو قصة حقيقية جرت احداثها في اسبانيا عام 1969 , لكن حديث والد رامون عن الاسباب والطريقة التي دعت رامون يقفز الى البحر, تجعلنا امام لقطة غامضة لا تستقيم الا بمعالجتها كما بقية اللقطات وفق سياق الحساسية نفسه ومتابعة التجربة الحياتية له داخل هذا النسق , يقول الاب للمحامية جوليا التي جاءت من أجل تبني قضية رامون في المحاكم انه لا يعرف لماذا قفز ابنه الى البحر وهو في حالة انحسار, ولا يعرف بماذا كان يفكر, يقول : " انه لشيء محزن جداً , ان الله اراد له ان يعيش حياته " وحين ترد عليه المحامية " ولكنك تعلم انه لا يريد العيش " يجيبها الاب " ولكنه لم يخبرني عن اي شيء "! . وفي لقطة أخرى يقول الاب في اجتماع للاسرة مع مندوبة المؤسسة للدفاع عن حرية الموت بكرامة من أجل ذهاب رامون للمحكمة للنظر في طبيعة الاسباب التي يطلب من خلالها الموت , " ان رامون لديه رغبه بالموت اقوى من الموت نفسه " ! , وكذلك اثناء لقاء جوليا الاول معه في البيت لتسجيل مبرراته واقواله لنفس السبب اعلاه , تعيد عليه نفس تساؤلات الاب والاسباب التي جعلته يرمي بنفسه وهو خبير غوص , وانه كان ينبغي ان يحسب النتائج بشكل افضل , يجيب حينها :" لقد تم الهائي " ! هكذا حتى في لقطة العودة الى الماضي كان يتحسس رقبته من الخلف قبل البدء في عملية الطيران الى الاسفل .


تكشف هذه الحوارات الطريقة التي تناسبه للتفكير بالموت , مع انه من البديهي ان يفكر بالموت وهو في حالة عجز كهذه , ومن الانسانية والحب مساعدته في ذلك , لكننا سنكتشف انه كان يفكر بالموت حتى قبل ان يتعرض لحادث البحر , ومعظم مبرراته كان يسوقها حول معنى الحياة وإرادة الموت بالصيغة المجردة لا بالصيغة البديهية العامة التي عليها واجهة الفيلم , والتي يمكن ادراكها والتعاطف معها بسهولة , لهذا فالفيلم محاولة لفلسفة الموت والحياة كما أسلفنا وحرية الترجيح بينهما حسب طبيعة الوعي وقوة التأمل , والمبررات التي يقدمها لنا الفيلم باعتماد ما يتجاوز الفكرة الام " موت الاشفاق " الى ما هو اكثر غرابة وجدل منها , تجعلنا امام أسباب أخرى للموت مرتبطة بطبيعة رامون وتجربته الحياتية قبل وبعد الحادث , حيث يُعد عنصر الحساسية والوعي المفرط بمغادرة الحياة وهدرها , مفتاحاً مهماً للحديث عن طبيعة الذرائع التي يقدمها الانسان لمواجهة الموت والحياة معاً , وشعور كهذا يحصل عادة عند الشخصيات ذات الطبيعة اللامنتمية كما الشخصيات التي تناولها كولن ويلسون كشخصية الفنان فان كوخ وشخصية بطل رواية الجحيم لهنري باربوس ونيتشة وآخرين , واذا كان الفيلم لم يكشف لنا هذه التحولات الفلسفية والوجودية في حياته السابقة على الحادث , سيكون من المنطقي ان يعيشها بعده , وكل المقومات متوفرة فيه كطبيعة حالمة ومتأملة تملك من الوعي لوسم كتابه الشعري " متْ لتعيش .. رسائل من الجحيم " بعنوان يكشف ما يعتمر في مخيلته ونفسه من صراع حول ذاته ومصيره الانساني , فمن العناية القول ان رامون كان يفكر بالموت قبل ان يسجنه حادث البحر في جسد ميت كما ذكرنا سابقاً , خاصة وان المخرج لم يوضح لنا كفاية لماذا أراد رامون القفز الى البحر رغم علمه بالنتائج , فهل كان يريد الانتحار ؟ إنه من المناسب سحب موت سامبيدرو وأسبابه خارج سياقه البسيط والمكشوف والمتمحور حول موت الاشفاق مع أهمية وجمال الفكرة العامة داخل الفيلم , وانه توصل الى مستوى من الوضوح اصبحت فيه مبررات الموت اقوى من مبررات الحياة لديه , واذا كانت مبررات هدر الحياة بالموت اقوى من مبررات الابقاء عليها ماذا يمكن ان يكون عليه موقف الانسان في النهاية غير اخلاصه لوعيه وحساسيته اتجاه فكرة الحياة كفكرة بائسة لا تستحق ان تعاش من وجهة نظره ؟. ولا يمكن للانسان الصادق الا ان يمتثل ويخلص للصوت الحقيقي الذي يأتي من الداخل وللفكرة الاكثر رصانة وسحراً , من الفكرة التي تدفعه للبقاء رهين يأس غير خلاب . اننا امام رجل من الوضوح مع ذاته لا يمكن له ان يدير ظهره لحريته وحقه في القرار اي الاتجاهات يسلك ولماذا ؟ .


ان الموت يحضر بكليانيته كما الحياة بكليانيتها والحرية تفرض اي الاتجاهين نختار. رامون الشخصية الحالمة والمتأملة والاكثر جدلاً وسحراً داخل الفيلم , هو رامون الذي طلب الموت لانه يريده وينسجم مع مبرراته التي ضاعفها الحادث اكثر وجعلها أقوى , ولو طلب الموت كونه عاجزاً لاصبحت جميع مبرراته حول الموت سهلة وبلا قيمة فلسفية ومغايرة لشخصيته لانه يجعل موته سبباً للعجز , وهناك فرق كبير بين ان تعي الموت كخلاص وحرية وعودة الى التوازن , وبين ان تعيه كسبب لحادث طارئ فحسب .

فراشة على قميص روبن وليامز

مهند يعقوب

كل فناء لا يعطي بقاءً لا يعوّل عليه " محيي الدين بن عربي "

يحتل رمز الفراشة في الفكر الانساني الباطني والنقدي المدوَّن مكانة مميزة ومهمة منذ الحلم الذي أعترض الحكيم الصيني تشوانغ تسو في القرن الثالث قبل الميلاد , وكيف تحول تشوانغ تسو الى فراشة في ذلك السطوع الباهر وتحولت الفراشة الى تشوانغ تسو نفسه , مروراً بالاثر النثري الصوفي والمحاولات النقدية الاخلاقية والفلسفية , التي حاولت تفسير هذا الرمز وأعطاءه دلالاته الباطنية العميقة كعلاقة تحكم الكائنات الحية ذات النوع الواحد او مختلفة النوع فيزياوياً ووظيفياً , لتحولها كشيء واحد مرتبطاً ارتباطاً وجودياً دالاً " ان كل شيء هو كل شيء آخر " كالارتباط بين الاثر والمحيط , أو كالارتباط بين الصورة والمرآة .
نجحت السينما الى حد كبير في أعمال كثيرة تتضمن هذا المعنى الوجودي الصوفي العميق كعلاقة وَجدْ وتوحد في كثير من الاعمال , ليس برمز الفراشة تحديداً وانما بطاقة هذا الرمز كما في فيلم " متى يأتي حلمي " 1998 للمخرج " فنسنت وارد " بطولة الممثل الرائع "روبن وليامز", وفليم " المشي فوق السحاب" 1995 للمخرج "الفونسو أرو " بطولة الممثل المميز " كيانو ريفز" والممثل القدير "أنتوني كوين " وغيرها من الافلام السينمائية الباهرة ,ولا نريد هنا في هذي المحاولة المتواضعة للحديث عن رمز الفراشة ان نتعقب تأريخ تضمين السينما له ومتى بدأ تحديداً , أوالبحث في الاثر النثري الصوفي وتنوعه تأريخياً وما قيل من أراء نقدية وتطبيقات حول هذا الرمز , وأنما محاولة لتعقب بعض الاعمال السينمائية التي تتضمن هذا الرمز والاضاءة كدلالة عن العشق والوجد في العلاقات الانسانية , وتحقيق الهدوء الداخلي وطرق امتصاص الحياة والسعادة كهدف انساني سامي كما في فيلم ("باتش آدمز " والذي سيكون محور مقالتنا هذي في لقطة وحدث لا يتعدى حدود الدقائق المعدودة داخل الفيلم , لكنه يمثل الاضاءة الاكثر أهمية في رأيي , وهي لقطة موت الحبيبة ودخول رمز وعنصر الفراشة وانتقالها من الحقيبة الى ( القميص ) كدال على ارتباط وثيق وقديم بين الحبيبين وهو ما يطلبه ( باتش آمز) نفسه كاشارة وخاصية لحبيبته المفقودة بعتاب حاد وموجع مع السماء - كما ستناوله - التي بدورها تستجيب لوجعه وطلبه برمز يحتل مكانة مهمة وكثيفة في التراث الصوفي والفلسفي و بعض النظريات النقدية الحديثة .

تتمحور فكرة الفيلم حول مناهج التربية وطرق التفكير لعلاج مشكلات الانسان خارج سياق النظرة السائدة التي عليها المجتمعات والمؤسسات العلمية والتربوية , ليس فقط في أطار المشكلات التي يحاول الفيلم معالجتها من الناحية الصحية والنفسية , وأنما حتى من الناحية الساسية والفكرية والثقافية عموماً وبشكل غير مباشر , حيث تدور أحدات الفيلم حول شخصية تدرس الطب في احدى الجامعات الامريكية ضمن السياق العلمي الالي والجامد كمنهج في معالجة الامراض العضوية والنفسية للمجتمع والناس الذين يعانون من تلك الامراض الحادة والمستعصية ,لا يستطيع هذا الطالب تقبل هذه المناهج في النظرة لمشكلات الانسان الصحية وحصرها في اطار البحث العلمي والتجريبي وطرق معالجة المرضى بالادوية خارج المحمول العاطفي كعلاقة بين الطبيب والمريض , فيعمد على ان يسقط تجربته الشخصية في النظر للاشياء كعلاقة يحكمها بالدرجة الاساس العنصر العاطفي والانساني المحض كمحرك اولي في التعاطي مع المريض وقابليته على الاستجابة للعلاج كيميائياً , والصعود باستعداده النفسي الى مستوى الشعور بالسعادة , التي ينقص المنهج السائد , وينقص الكادر الطبي بالدرجة الاساس العمل عليها وتحقيقها , حيث يبدأ "روبن وليامز" بشخصية باتش آدمز داخل الفيلم الى بسط تصوره الجديد الساخرمن المنهج داخل الجامعة ومن طرق العلاج الجامدة والخالية من العنصر العاطفي كأجراء علاجي للمرضى مما دفع بمدير المستشفى وهو نفسه عميد قسم كلية الطب التي يدرس فيها الى تحذيره من الممارسات غير الرصينة التي يتعامل بها مع المرضى داخل المستشفى حسب وجهة نظره من قبيل اداء بعض الحركات البهلوانية لقسم الاطفال المصابين بالسرطان وتحويل اجهزة وادواة العلاج في المستشفى الى رموز مضحكة لادخال البهجة والسعادة الى نفوس الاطفال , وان لا يكرر هذه الاعمال الصبيانية لانها تتنافى مع الهدوء الذي يتطلبه الجو في المستشفى واللازم لعلاج المرضى واستجابتهم له , يستمر باتش آدمز بطرح افكاره الجديدة كطرق علاجية وتطبيقها على المرضى للحد الذي يصل مستوى الاستهجان والرفض لما يقوم به الى ان يهدده عميد الكلية بالطرد والفصل من الكلية ومنعه من التطبيق داخل المستشفى ويصل مستوى الاستهجان حتى على مستوى زملائه بالكلية حيث ترفض " مونيكا بوتر" - التي ستجمعها علاقة عاطفية باطنية عميقة مع باتش آدمز- تصرفاته الساخرة من المنهج وطرق العلاج لحد وصفه بالمهرج داخل الفيلم .
تبدأ افكار باتش آدمز بعد سلسلة من المواقف الحرجة والصدامية مع عميد الكلية وبعض الاطباء بالقبول وتحقيق نتائج ملموسة بالنسبة لبعض الكادر الطبي داخل المستشفى وبالنسبة لبعض الزملاء , وتبدأ " مونيكا بوتر" بالميل العاطفي " لباتشز آدمز " بعد ان تلمس الدفء والثقة الداخلية الحميمية التي تحكم شخصيته وانعكاساتها على سلوكياته اليومية وتأثيراته الشخصية عليها وعلى المرضى بدون فاصل بين ما يتطلبه العمل والدراسة , وبين سلوكه الانساني العادي , فتجمعهم علاقة حب يعمد المخرج الى اظهارها كدال مركزي داخل الفلم وكاشارة وأضاءة مهمة لها مدلولها الرمزي العميق حول طبيعة العلاقة التي تجمعمها , فبعد ان يصل مستوى الرفض لسلوكيات باتش أدمزالى الحد , يعمد المدير الى طرده خارج المستشفى ’ ويعمل هو على تحقيق طموحه المستقل لطرح افكاره خارج المؤسسة الرسمية ومن دون ترخيص أيضا وينجح لحد مثير باستقطاب المؤديدين لفكرته في لمعالجة المرضى , ومن ثم تتوالى الاحداث لتصل الى النقطة الاكثر اثارة وهي حادثة مقتل حبيبته على أيدي احد المرضى النفسيين الذين كانوا يترددون على المستشفى , وحينما يستقبل باتش آدمز خبر مقتل حبيبته يصاب باكثر من الدهشة والحزن , ينسحب أعمق داخل نفسه وتضطرب الفكرة الجوهرية التي اعتمد على تأصيلها منهجاً ونظرة لحياته الخاصة والعامة من خلال أنهيار ما هو أعمق من المنهج والنظرة وطريقة التفكير او ما هو مشتق منه اي المحرك , انه امام فقد ووجع ذاتي , انه يفقد الجسر الذي يعبر به الى نفسه والحياة وآلاخر, يفقد قيمته الوجودية وعلاقته بالمحيط كأثر يغذيه الوجد والعشق لحبيبته , فتنهار كل مشاريعه حول المنهج وطموحات التغيير التي كان يؤمن بها , وقبل ان يعمد الى العزلة يذهب الى المكان الذي اخذ حبيبته له , المكان الغيمة او البساط الاخضر, حاضن الحبيبة , والناس , والطريق لهم , وهو نفسه مكان المستشفى , بيت صغير متواضع على سفح الجبل يطل على منطقة ساحرة بطبيعتها , ويبدأ عتابه الحاد مع السماء , انه كان ينبغي ان تكون اكثر رحمة " انك خلقت الكون في ستة ايام فلِمَ لم تجعل اليوم السابع للشفقة " " ان كنت حقاً موجود أرني شيئا يخصها "
كان يبحث عن خلاصه في رمز هو ذاته وحبيبته ذاتها والكون والحياة ذاتهم انه يبحث عن رمز يعني الكل في واحد يعني " ان كل شيء هو كل شيء آخر " يبحث عن بقاء الوسائط نظيفة وسليمة ذات طاقة داخلية تعمل على نقل التجربة الانسانية والاقامة فيها , الوسائط الداخلية والباطنية التي تؤمِّن للشخص الارتباط بالآخر وتعبرعنه كعلاقات بدون حواجز وبدون أفكار زائدة عن أصل الفكرة وجوهرها الوجودي , فتستجيب السماء لانه يعرف ان هنالك حقيقة لهذا طلب المعنى ليستريح ويطمئن ويستمر في الحياة . والمخرج (توم شدياك ) في الحقيقة تقصّد بمهارة في هذا التحفة الفنية اظهار هذه الاضاءة واللقطة بحيث تبدو داخل النسق وداخل الفكرة المركزية للفيلم باستخدام اكثر الدلالات تعبيراً ومحركاً للحياة والكون , انها (الفراشة ) التي تعني التوحد والانسجام والاستغراق في النفس والاخر (الانا والـ هو) والتي كان ينتظر بطل الفلم سطوعها على حياته من جديد بعد تحديه للسماء في الفيلم , حيث يبهره حضورها الاكيد مبتدئة التنقل من حقيبته على الارض الى ( قميصه ) مستدركة كل المعاني التي اهتزت عنده بالفقد والوجع والخذلان , وتجميعها من جديد في ذاته القادرة ابتداءً على صناعة هدوئها الداخلي وشراكتها وانسجامها مع المحيط والاشياء برؤية الحقيقة والاستمرار بحياته من خلال نفس الرمز الذي أعاد آدمز من جديد للايمان بمشروع حياته الانساني في معالجة المرضى والنظر للاشياء والحياة انها كل منسجم واحد .
بهذا الاشتغال والموهبة العالية تكون السينما قد نجحت نجاحاً باهراً بهذه التضمينات العميقة , ومن ثم يكشف هذا القصد السينمائي داخل الفيلم ومن خلال لقطة ( الموت ) و ( الفراشة ) محاولة السينما نفسها ونجاح هذه المحاولات في الاستعارة والاضاءة او التطابق مع الخطابات النقدية الحديثة لرمز الفراشة , ونظريات علم النفس , ومع الاثر النثري الصوفي والباطني , وبعض اعمال الرسامين العالميين , وهي تشترك وتتفاعل وتسعى جميعاً للكشف عن طبيعة الذات الانسانية واشتغالاتها والمغذيات التي تتحكم في صياغة مشروعها الانساني , وتحدد طبيعة العلاقات التي تحكم الوجود والكون والكائنات عموما وتجعل من هذه التجربة الباطنية رمزاً للوجد والتوحد والانسجام والتناغم , وتجعل ايضا هذا الاشتغال قابلاً للتحقق والتأثير, تمثل الفراشة رمزه ومختصره ومعناه الكثيف والساطع .













الثلاثاء، 16 مارس 2010

الإحالات الوثنية في مجموعة هانيبال لكتر

مُهنّد يعقوب



أمي تأوهَت ، أبي بكى ، قفزتُ في هذا العالم الخطير أعزل عارياً ، مزقزقاً بأعلى صوتي كشيطان مختبئ في سحابة. وليم بليك من قصيدة “ حزن طفولي “ ترجمة: إنطوان جوكي .

بدأ الظهور الأول لشخصية الدكتور " هانيبال لكتر" في سلسة الأعمال الروائية ما بين الفترة 1981 - 2006 للروائي " توم هاريس " والتي تحولت فيما بعد الى أعمال سينمائية كان أولها فيلم " مان هنتير" للمخرج " ميشيل مان " عام 1986 . ثم تلتها المحاولات ألاربع ذات الدهشة العالية والتي يمثل القدير " أنتوني هوبكنز " بطولتها " صمت الحملان " عام 1991 مع الممثلة الرائعة " جودي فوستر " للمخرج " جوناثان ديمي " والذي فاز بخمس جوائز أوسكار كما فاز كل من " هوبكنز و فوستر " بجائزة أفضل ممثل وفاز " ديمي " بجائزة أفضل مخرج . ويليه الجزء الثاني " هانيبال " في عام 2001 مع الممثلة البارعة " جوليانا مور" للمخرج " ريدلي سكوت " حيث تغيب الممثلة " جودي فوستر عن هذا الجزء لاسباب تتعلق بفكرة السيناريو المأخوذ بالاعلاء من مكانة وأهمية هانيبال أكثر من مكانتها وأهميتها كممثلة للقانون . وفي هذا الخلاف مع المنتج " دينو ديلا " الذي يملك حقوق الطبع نقطة مهمة جداً تعكس وعي المنتج الصادم للحفاظ على مركزية العمل المتمثلة بطبيعة البطل الخارج عن الاضداد بالمعنى السلبي كما سنتناوله لاحقاً . ثم الجزء الثالث " التنين الاحمر" عام 2002 مع الممثل المرموق " ادورد نورتن " والممثل " رالف فينيس " للمخرج " بريت راتنر " والجزء الرابع " هانيبال ريزنك " في عام 2007 الذي يحكي قصة التحول التي عاشها هانيبال الصغير والصدمة الأولى التي جعلت منه شخصاً مختلفاً ينظر للحياة والكون والاشياء نظرة معرفي صاحب خيال غرائبي أبعد من كونه مجرماً عادياً يكتسب مهارته فقط من خلال منطق الأخذ بالثأر، أو تحت تأثير العامل السايكلوجي المختل من جراء الوحشية التي يتعرض لها في صباه.

في لقطة متتالية ومتكررة في كل من فيلم " صمت الحملان " و " التنين الأحمر " تحاول الـ آف بي آي الاستعانة بالدكتور هانيبال لكتر المسجون لديها للكشف عن تفاصيل الرعب والصدمة التي يعيشها المجتمع الأمريكي ، بعد أن عجزت عن إمساك منفذي الحوادث الاجرامية المريعة ، بارسال أحد عملائها المميزين . العميلة " ستارليك " في المحاولة الأولى ويأتي العميل " كراهام " في الثانية ، كمحاولتين منفصلتين كل محاولة في فيلم على حدة لكن مؤداهما واحد . وهي لقطة مهمة تكشف عن ثنائية الصراع والتعاون بين قوى الخير وقوى الشر داخل الطبيعة الإنسانية وداخل الحياة ، وتكشف أيضاً من خلال إعطاء الثقل الأهم لشخصية هانيبال ، كشخصية محورية يقع عليها الاشتغال الأكبر في توظيف ذلك الصراع والتعاون بالاتجاه الوثني وليس بالاتجاه الذي تلى هذا العصر، والاختلاف ملحوظ بين الإتجاهين .

حيث يمثل الإتجاه الأول عصر الديانات الوثنية التي تقول بالإنعدام القيمي أخلاقياً وقانونياً بين قوى الخير وقوى الشر كقوى متكافئة داخل الإنسان والطبيعة. تكون الضرورة فيها للنور كما للظلام ، وللنظام كما للفوضى ، وللحمل كما للنمر. وإن هذا التكافؤ هو أصيل في الطبيعة الإنسانية وطبيعة الكون ، يحكمه عنصر الحرية او ما يسمى بـ “ الانتخاب الطبيعي “ ويدفع به للحركة والتبدل والنمو والتكامل من دون صفات طارئة تكبح هذا المعنى الجوهري، الذي يعكس ملامح تلك الفترة كما يعبر بعض المؤرخين والنقاد في دراسة الأديان الوثنية القديمة. إذ يؤكد بعض المؤرخين" أن الأسماء التي يطلقها المصريون على آلهتهم تنطوي معظمها على المعاني الموجبة والمعاني السالبة والكابحة والمعطلة ، فالإله " سيت " مجسداً للقوى السالبة والإله "حورس " مجسداً للقوى الموجبة ". وكذلك بالنسبة للديانة الزرادشتية فالإله " سبينتا ماينو " يمثل الطبيعة الخيرة و" انجرا ماينو " يمثل الطبيعة الشريرة ولا ترجيح قيمي بينهما ، وإنما يخضعان في الصدام او التعاون لمبدأ الحرية في الاختيار سلباً أو إيجاباً .
ونحن هنا أمام حالة تعاون وتضاد شمولي يحكم الطبيعة نفسها، ويحكم العلاقة بين الكائنات عموماً . والتعاون بين العميلة ستارليك وكراهام من جهة ، وبين الدكتور هانيبال من جهة أخرى يعكس هذا المعنى بشكل واضح حيث يشترط أن يكون التعاون سؤال بسؤال . يجيب هو عن الأسئلة التي تخص منفذي حوادث الرعب المتفشية وغير المسيطر عليها وفك شيفراتها ، وهم يجيبونه عن الأسئلة المتعلقة بحياتهم الشخصية التي يريد الدكتور تأكيدها لنا ضمن لا نهائية التعاون والتضاد في الكون والطبيعة والانسان . ويكشف هذا المعنى أكثر رسالته الأخيرة للعميل كراهام في الجزء الثالث .

" عزيزي ويل لابد وأنك تماثلت للشفاء من الخارج على الأقل ، أتمنى أن لا تكون مشوهاً ، يا لها من مجموعة ندبات تمتلكها ، لا تنس من أعطاك أفضل واحدة وكن ممتناً فندباتنا لها القوة لتذكرنا بأن ما مضى كان حقيقة ، نحن نحيا في زمن بدائي أليس كذلك ؟ ليس بوحشي ولا بحكيم أنصاف المعايير هي لغته. المجتمع العقلاني قد يقتلني وقد يستفيد مني . أتحلم كثيراً يا ويل ؟ أعتقد ذلك. صديقك القديم هانيبال لكتر" .

معظم الصدمات التي حققها الدكتور هانيبال لكتر للمجتمع ولمجايليه بتغييب ضحاياه فيزياوياً ، هي صدمات طالت فقط السيء والقبيح من الشخصيات . ولو إستثنينا الأثر السايكلوجي الحاد في نفسه كشخص مريض بالوضوح والتعالي والعنف ، لخلصنا الى شخصية تشتغل على أكثر المناطق جمالاً وخيالاً ، ولتمكنا من رفع الوصف القيمي الأخلاقي والقانوني من صنائعه البديعة ، فلا يمكن أن نخفي إعجابنا به كطبيب نفسي بارع ، ومتخصص في علم التشريح ، وعلم الشخصيات والقانون الجنائي ، ومرجعياته الفكرية والفنية داخل الفيلم .
وشيء من التجوال الحريص داخله يجعلنا نفهم كذلك أن هانيبال شخصية محبة ولديها القدرة على إكتشاف القبيح ومعرفة الحسن ، والتمييز بينهما بدقة وحرفية عالية . وهو ما يدفعه للشعور بالدعة والهدوء إتجاه الشخصيات التي تشبهه بالذكاء والحساسية . تربطه علاقة صداقة مثلاً مع العميل كراهام خارج سياق المؤسسة والقانون ، كذلك تربطه علاقة حب مع العميلة ستارليك لدرجة إقدامه على بتر يده في لقطة يجمع أيديهما طوق حديدي وآثر بقطع يده على ان يؤذيها . هو ايضاً مناهض لمبدأ الشر، وهو يمتلك حق حريته الأصيل في طبعه كما هو أصيل بطبيعية الكون في ترجيح مكانته على مكانة الآخر وحضوره . والآخر القبيح بالنسبة اليه شيء محتقر أو كما يقول وليم بليك " الهواء للطير والبحر للسمك ، كذلك فالإحتقار للحقيرين " أو كما يسميهم هو " بالوقحين وراثياً ". فكانت مشاعره تنقسم الى قسمين ، مشاعر يحكمها شرط الجمال الوراثي وله أثر، كالعلاقة مع ستارليك وكراهام . وأخرى يحكمها شرط القبح الوراثي وله أثر ايضاً ، تمثل بقتل المفتش الإيطالي " رينالدو بازي " الذي يتتبعه في " فلورنسا "من أجل ان يحصل على الجائزة ، مقابل الادلاء بمعلومات عن مكان تواجده .
يقول عنه هانيبال " إنه جشع وخائن مثل أحد أسلافه في العصور الوسطى . لقد خان بيير ثقة الامبراطورية ثم أصيب بالعمى وسُجن . المهاجر دانتي أكتشف بيير ديلا " ويواصل " على المستوى السابع من الجحيم فان يهوذا وبيير ماتا بالشنق وهما مرتبطان في رأيه بالجحيم " " في الحقيقة يرتبط الجشع والشنق بالعقل في القرون الوسطى ". وبالتالي إنتهى الأمر بالضحية الأولى المفتش بازي بالتغييب على طريقة إنتحار يهوذا كنتيجة للخطيئة والخيانة وكتنقية وتطهير من الذنوب بالمعنى الدانتي في الكوميديا. وهكذا بالنسبة للضحية الآخر الصحفي " لاوندوس " الذي يعمل في صحيفة " تاتلر " يواجه شرط حريته بالاختيار على يد " فرانسيس دولارهايد " مدير الخدمات التكنلوجية والمشرف على معدات نسخ الشرائط في فيلم " التنين الاحمر" نتيجة نشره أكاذيب ومحاولته للايقاع بدولارهايد أملتها عليه الـ أف بي آي . فيكون الصراع بينهما هو صراع بين شروط التكون الجيني والوراثي والمجتمعي.

فالصحفي يتحرك انطلاقاً من جشعه وانتهازيته على حساب المهنة واشتراطاتها ، ودولارهايد يتحرك من خلال عنصر الطفولة والإنسان المهدور والمسلوب بالتقريع والتوبيخ والإهانة . وكلاهما يقدم الصورة والأسلوب الأنسب لحريته ، والفرص متاحة بشروطها للتحول أما باتجاه الإنسان ، او باتجاه المسخ " بالميلاد الجديد " .وكانت النتيجة أن الصحفي تحوّل الى كومة حطب مشتعلة بعجلات . ولم يستطع دولارهايد أن ينتصر على المسخ المقيم على ظهره كوشم تمثله لوحة "التنين الاحمر أو الجحيم " ، رغم أنه عاش حالة حب مع موظفة عمياء كادت أن تنتزع الوشم " الجحيم " من قلبه ، الا أن شروط تحولة الى مسخ كانت أوفر وأقوى من الحب نفسه .

إننا أمام طبائع لا يمكن أن تقبل الجدل القيمي ولا تخضع لمعيار الإدانة وفق هذا المنطق . يكفي فقط وعي التجربة وعياً ضمن الشروط التي ذكرناها ،لانها شروط نهائية وحتمية حسب الدكتور لكتر. يكشفها رمز الحملان في الجزء الأول من السلسلة، التي تصرخ في الحظيرة من دون أن تحاول الهرب . مع إن ستارلك هيأت لها ذلك ، لكنها إكتفت بالصراخ فقط أمام مشهد الموت ، وستظل تصرخ الى النهاية من دون أن يكون هناك أي حل في أي اتجاه . إنها ملزمة بشرط وجودها كضحية كما هانيبال ملزم بشرط وجوده كقاتل معرفي مهذب .

لقد أكتسبت سلسة أفلام هانيبال لكتر وعبر متواليات بصرية وسردية متنوعة، أهمية نقدية وتأملية لاعتبارت كثيرة. منها المحاكاة للعديد من الأعمال الفنية والشعرية والفلسفية ، والقدرة المثيرة للاعجاب والدهشة لدى الممثلين وموهبتهم الخاصة للكشف عن تلك المضامين وتقديمها بمنطق اللغة والحركة الساحرين . وكذلك تضمين التصور الوثني داخل " السلسلة " بمستويات عديدة ومتنوعة ، كالاشارة لإعمال " وليم بليك " الشعرية والفنية ، او الاشارة " لجحيم دانتي " في الكوميديا الإلهية " ويهوذا في الاناجيل والرموز والتماثيل التي تعلو وتزين واجهات الكاتدرائيات في مدن إيطاليا وتحديداً " فلورنسا ". حيث يمارس الدكتور هانيبال تطبيق مرجعياته الفكرية والفلسفية في نفس المكان، الذي يمثل المحيط لهذا الأثر او التصور الوثني ، معتمداً على طاقاته الكامنه وثقته بغرائزه كطبيعة شخصية أبرز ما يميزها الخيال الذي يستحوذ على ما دونه ويهاجمه ، لانه محدود ومحدّد كالمعرفة التي عليها زمننا الحالي والتي هي معرفة ناقصة ومتخلفة كما عبر سابقاً في حواره مع العميل " ويل كراهام " في التنين الاحمر" يقول " بدون الخيال الذي نملكه لكنا مثل هؤلاء الحمقى الآخرين ".

الخيال الذي يؤسس له وليم بليك ويجعله المحور" لكل الحقائق الشخصية والاجتماعية والدينية " والذي أصبح اي وليم بليك ، أهم الرموزالفنية في صياغة تصورات هانيبال داخل السلسلة كلها ، من خلال الاشارة الى أفكاره ، ورسوماته الغرائبية كالمائية الشهيرة والباعثة على الدهشة والغموض لوحة " الشبق " او " الجحيم " والتي تحتل المساحة الأوسع في الجزء الثالث ، وهي تقيم على ظهر الأنسان المضطرب نفسياً " فرانسيس دولارهايد " كوشم . إذ الحرية الوراثية كشرط هي من يحدد إمكانية تحول هذا المسخ الى إنسان او تحول الإنسان الى مسخ ، ضمن لعبة التحول والتكافؤ ، التعاون والتضاد ، التي تحكمنا والكون عموماً .