الاثنين، 10 ديسمبر 2012

صنارة تحت الغيم

مهنّد يعقوب

أوروبا البرتقالي الطويل
صنارة تحت الغيم
برج إيفل وساعة بكبن 
في المزاد.

أوروبا ضرائب وشتاء في أربعة
إبتسامة الموظف
والمظلة المفتوحة
حين تعطس
على رأس الأجنبي السماء.

أوروبا جائزة رفضها سارتر
ويموت لأجلها أدونيس
أوروبا نيتشة 
وسلفادور دالي
من دون شوارب.

أوروبا لقاح ضد العائلة
أرقام وجداول
قارة جميلة وتفكر.



الجمعة، 7 ديسمبر 2012

قصائد وحيدة يصعب تركها تذهب

الى حسن بلاسم 

مهنّد يعقوب

قصائد وحيدة 
محصورة في الظلام
يصعب تركها تذهب
مهرجان الأدب 2011 براغ
تتكوم فيها قناني فارغة
يلهو عندها الأطفال
ثم نافذة خلف الرجل
في أول سطر من الحكاية
تكشف عن أشياء تافهة وخشنة
تبدو بعيدة ومهملة
لكنها في الحقيقة
على راحة يدي تتمدد
أتذكرها جيداً
وليس بوسعي النسيان.

إنها حكاية يائسة ومريضة
رأيتها مراراً خارج المنام
وذلك الرجل ذو اللحية الكثيفة
والعينيين الواسعتين أعرفه جيداً
لقد قال كلمات مدماة
عن المهاجرين الأجانب
صنعها لنفسه بعناية وغريزة
بين الحدود والفواصل
وفي الطرقات الخالية والشاحنات
في غرف النوم ، في الحديقة والمنزل
وتركها لنا مكشوفة
دمها يفور في إطار
تقول ما ليس يقال في قصة.

حدث ذلك في الماضي
عندما فتح الشرطة البلغاريون
الباب الى العالم
ليرى النّاس وحيدهم الذئب
الذي فر الى الغابة.
حدث ذلك
عندما كانت تصرخ بوجهي
" شاحنة برلين "
حكايتُك التي لا يمكن
أن أصدها بالنكران.

لقد دخلتَ أخي حسن بلاسم
أنتَ معي في الإطار
وأصبحت صورتُك واضحة
وعيناك تأخذان بالإتساع أكثر
لقد رأيتُ في قلبك تلك الليلة
طفلاً وتوسلاتٍ كثيرة
كنتَ خائفاً وتريد فقط أن ترتاح
من الصراخ والدّم المتخثر
أن تتكور مثل ملابس قديمة
متروكة لحالها وتنام.



الاثنين، 19 نوفمبر 2012

قصائد هولندية معاصرة

ترجمة : موفق السواد

محطة وقود 

Bart FM Droog

موفق السواد
أنظر الى الأيام من زاوية أخرى
أنام حين يستيقظ الجميع
أسهر على قلق تلك الأحياء
البعيدة الممتلئة
أعيش بعيداً عن الزحام
في سيارتي الرائعة
بلونها الأزرق الرسمي
أستمع للأغاني التي تهزني
عند ستدي كروزة
حول هذه القارّة الشاربة للدماء
لا أبحث عن شيء
أنتظر أقل ممّا تنتظره عظامي
من كلاب المقابر البعيدة
وامرأة لا يمكن نسيانها.


إنتظار

Arjen Bakker

لماذا ليس الآن 
شيء يقترب
وشيء آخر يختفي
أغاني الوداع
تصدر من كلّ زواية الشارع
الشبابيك المفتوحة
تسلّم أو تستقبل ما سيختفي
في آخر نفس.


التوأم

Petra Else Jakel

التوأم فريدا
لا تملكان سوى قدمين
إبهاماهما تلامسان الأصابع كلّها
قطعة بعد أخرى
ذهاباً وإياباً
كما في أول درس رقص.
عندما صنعتْ دائرة بيديها
وذراعها حول خصرها.
التوأم فريدا 
تضعان الإبهام على الثدي
تتلامسان تحت الماء
تسحبان القاع الحجري
كلباس فضفاض
كبيت ،ككهف أبدي
ومع هذا كله تغير جسدها.

المراة فريدا الأولى
تناديني فوق ماء البحر
ولكنّها تتركني واقفاً عن الهالة
وأنا أستسلم بانتظار المطر.

المرأة فريدا الثانية
تتحدث بهدوء
تقول ما ليس صحيحاً للماء
لأكون صاخباً كما الكلمات
وأن استمعت تأخذني معها.
خذّ شالاً تقول لي
ستهب الريح
إجلب معطفاً ضد الماء
وانسى كيف تسبح
إستمرْ تنفس تحت الماء
كنّ كما لؤلؤة دّم.


شراء التفاح

Tssead Bruinja

ذلك الحزن المعتق المفتت
في صناديق بائع الفاكهة
مرتبكة عاشقة التفاح
البائع يراها منكسرة
ضاحكة على طرائفه
متمنياً أن يلتقط سكينه
ليريها أنصاف تفاحه الذهبي
...
إنها مترددة مثل ساعة 
خالية من العقارب
كمن يلحق بالباص 
في آخر لحظة.



الجمعة، 2 نوفمبر 2012

كابوس فجر البارحة

مهنّد يعقوب


مهنّد يعقوب
الطريق التي رأيتُها البارحة كنتُ قد مشيتها بصحبة فتاتين يغطيهما رداء أسود لم يسبق لي أن رأيتهما من قبل، بل لم يسبق لي أن رأيت نفسي كذلكلقد خطونا فجأة الى الحياة عبر الفراغ من الجانب، عبرنا الساقية دون أن يكلّم أحدنا الآخر أو يعبأ بخطواتهكانت ساقية في منحدر وعليها معبر خشبي نحيف بطابقين . لا أعرف لِمَ يوجد معبر خشبي بطابقين أحدهما يبعد عن الآخر مسافة تكفي لترك سؤال !، مثلما لا أعرف ما الذي ستعنيه حياتي مستقبلاً أكثر من انها شبكة أنابيب عملاقة محشوة بالصراخ والمشاكل وعليّ الاستمرار بداخلها حتى النهاية. اختفت الفتاتان للحظات وأنا أعبر المنحدر الى القرية ولم أجد الأمر مقنعاً بالرجوع . لقد عاودت إحداهن الظهور وهي عارية تماماً وحزينة تركض باتجاه الساقيةتابعت سيري نحو شيء غريب سيحدث، شيء يشدني لشخص ما لا يشبه احداً من الذين أعرفهم أو سبق لي أن رأيته في أي فيلم سينمائيشخص من النوع الذي تناط به مهام ليست سهلة مثل الصمت لفترات طويلة او الموتشخص إما أن يقودك الى الشقاء أو الخلاص ولا تجد طريقة للتخلص من مرافقته لا بالكراهية ولا بالحبأنت منقاد له بفعل الغموض والحنين ، واختيارك أن تسبح الى جانبه في الحياة اختيار غريزي لتمنع عنه ضواري الماء بعصيهم ومعاولهم وصرخاتهم المتوحشة. لم يكن يحمل اسماً ولم يناده أحد بصفة أو لقب ، هو شخص غير مسمّى .  يقول عنه  أهل القرية أشياءَ مبهمة وأنه ذات مرة تحدث الى الناس وأخبرهم أنه على إستعداد لأن يموت بالنيابة عن أي شيء يحدث حتى وإن كان ذلك الشيء" أثر فراشة". كان أزرق ونحيفاً لا تستطيع أن لا تمدّ إليه النظر ، وله قريب يكبره سناً في الأربعينات رأيته مرة ونحن نصعد في أحد الباصات الصغيرة والمتهالكة في القرية، همس له بكلمات لم تكن نهاياتها واضحة كان يبدو عليه الإرتياح، ثم اختفى فجأة مع تلك السعادةعرفتُ أنني سأرى كل شيء بمنتهى الحدود والملامح مثلما رأيت عري المرأة، وأني في مهمّة قاسية كانت قد بدأت للتو. يركض الناس باتجاه الشخص غير المسمّى وهم يجلدون كلّ شيء بصراخهم المتعالي، وهو يركض نحو المنحدر بملابسه الرثة وأنفاسه المحترقة، وأنا بينهما أرى كلّ شيء ، ولا أستطيع إيقاف مجرى الهلع والدّم ، الذي أريق على جانبي الساقية.


السبت، 20 أكتوبر 2012

بحقدٍ أقلّ

جلال الأحمدي *


بحقدٍ أقلّ من هذا بكثيرٍ
جلال الأحمدي
توصّلنا إلى الدّببة وأسماك القرش والتّماسيح
وجلبنا الغابة من العدم !

بأقلّ من هذا
صقلنا السّيوف واخترعنا البنادق
زوّدنا رؤوسها بالسّكاكين وقلوبها بالرّصاص
وخضنا معارك لأجل أشياء تافهة
حاربنا كالجراد
كالخفافيش
في وضح النّهار
كالطّاعون !
الطّاعون تماماً
قّتلنا وقُتلنا
ولم نجد صيغةً نهائيةً لما نريد

بأقلّ من هذا
طاردنا الهنود الحمر
حوّلناهم بمحض أمزجتنا إلى كائناتٍ متوحّشةٍ
آكليّ لحومٍ ومصاصيّ دماءٍ
سلخنا فرواتهم
انتزعناهم من أحلامهم
من ضحكاتهم
من التّبغ
من أغانيهم الدّافئة
ومن هذا العالم للأبد
وعلّقنا أعناقهم على بوّاباتنا
فعلنا كلّ ذلك وأكثر
بحقدٍ أقلّ !

خرجنا في العتمة
في منتصف أحبّكَ
خرجنا في شدّة أحتاجكَ وأريدكَ
وتركنا ظهورأ كثيرةً عاريةً خلفنا
تركنا أيدٍ تتمدّد وحدها في النّدم
أيدٍ جريحةً تموء
تحت مسامير الفقد
ذهبنا إلى الشوارع
إلى المساجد
إلى العرّافات
إلى الكتب
إلى العاهرات
وتبادلنا الظّلم
تبادلنا الحافّة والفراغ
تبادلنا القدر
أخذناه معنا إلى السّرير
وخبّأناهُ في أحشاء أطفالنا
وبكينا
بحقدٍ أقلّ من هذا بكثيرٍ ياصغيرتي !
بحقدٍ أقل !.


مَجاز


أجلسُ وحيداً في المحطّةِ
المحطّة التي تجلسُ وحيدةً بي
أفتحُ مظلّتي للغياب الذي بجانبي
وأتخيل وجوهاً للأرصفة
أطلق أسماء حزينة على الحقائب
وأخرى مضحكة أفرّقها على الكلاب
أجلس وحيداً كـ أبدٍ
أراقبُ الذين يودّعونَ أحبابَهم
والذين يعودُونَ من البعيد ..محمّلين بالهدايا ورائحة التّعبِ
أراقبُ الحمّالين وهم يعانقونَ الغرباءَ
وأحسدُ القطط الضّالة 
وهي تستلقي فوق سِككِ الحديد
غير مبالية بصرخاتنا المختنقة
ولا بأكشاكِ الهاتف وهي تئنّ
وأشعر أنّني كنتُ هنا مِن قبل
ربّما في حياةٍ أخرى
كنتُ مطراً !

أو قطاراً !.
ـــــــــــــــــــ

* شاعر من اليمن يقيم حالياً في المملكة العربية السعودية - تبوك.
  عمل محرراً ومراسلاً لمجلتي ضفاف وأفنان ( من إصدارات أدبي تبوك ) السعودية.
  حاصل على جائزة الدولة في مجال الشعر لعام 2011 _ اليمن.
  له مطبوع شعري بعنوان ( شجرة للندم أو أكثر ).

الخميس، 30 أغسطس 2012

في المحاولةِ والخَطأ


كريم راهي

ليسَ من فرطِ اليأس
ولا حتّى من الذرائِع بشيء
الخوفُ ... درع الكائِن المنيع.
 كريم  راهي  ، تصوير : حيدر حاكم
الخوفُ تحصينٌ ضِدَّ إغواءِ الحَواسّ
ضِدَّ باقي الغرائِز
وضِدَّ ضرَاوة الحُبِّ واحتدامِه. 

 الخوفُ أيضاً..
أوّلُ الذخائِر، في اتّباعِ الأثَر
في المحاولةِ والخَطأ،
في التَشكُّكِ، في البُطءِ
وفي العَثرة والتراجُع.

وهو شاخِصٌ في الدلالةِ
منذُ الأحجارِ الصمّاءِ وأوّلِ الشرار
منذُ قَداسةِ النارِ البِكرِ وما خُطَّ في الكُهوف
شاخصٌ .. منذُ تكريسِ الآلهة
حتّى يُدركَ الجَسَدُ كَمالَه.

موت أبي

في أحلامي كما في يقظتي
هَرباً من الأنهرِ المالحة
أمرُّ على قرى الحنطة والنعاس
حيثُ الموتُ ينسَلُّ خُلسةً، معَ المناجِل.
كان أبي آنذاك
ينعمُ بقيلولة
حينَ هَوَى النصلُ الوامِض.


الجمعة، 24 أغسطس 2012

قادم من أقصى المياه


رعد زامل

قادمٌ من أقصى المياه
اجرُّ أذيالَ الظمأ
ومثل سهم ٍ بلا هدف
رعد زامل
أدورُ حولَ نفسي صارخاً
في الأهوار
كلكامش: لماذا أيها الجَد
لماذا تركتَ الحمير
يخضمونَ عشبةَ الخلود ؟

قادمٌ من أقصى المياه
بدمي سفينةٌ تمخرُّ عبابَ اليأس
وقراصنةٌ يتواطئونَ معَ الريح
للإطاحةِ بالأشرعة
مع ذلكَ
أنا السيلُ المندفع
قادمٌ من أقصى المياه
لأجرفَّ كلَّ سمكةٍ تذعنُ للتيار
واطمرَ كلَّ بئرٍ
يفوحُ برائحةِ المكيدة

قادمٌ من أقصى المياه
بدمي عنكبوتٌ يثيرُ الشغب
ما أن تضعَ الحربُ أوزارها
حتى يشعلَ شرارةَ الأخرى
ليتنفسَ الأوكسجينَ المذابَ بالدم
لذلكَ شاحبٌ أنا وهزيلْ
قادمٌ من أقصى المياه
مستعيناً على الهجير
بقنينةٍ من الحبر
ولثامٍ من ورق.



الأربعاء، 15 أغسطس 2012

يهبط على الجثث الغيم

مهند يعقوب

أخيراً
تحقق حلمها وطارت
الصبية التي
هبط على جثتها الغيم
في اليوم التالي.
ولكأننا قد رأينا ذلكَ مراراً
الجثث كلّ الجثث
يهبط عليها الغيم
بينما أنتِ كما أنتِ الآن
وردة تتيبس 
وسط الحرائقِ في سوريا
وأنا كما أنا الآن
شبح أعمى
يفصلُني عنكِ
دم ،
وكلام فارغ كثير.

الاثنين، 2 يوليو 2012

عن الوقاحة النوعية أو ضغائن المثقف

مهنّد يعقوب

ليست هذه المقالة مادة علمية في بيان الخريطة الجينية للإنسان وكيف تتشكل لديه النوازع والأفعال وما هي العوامل المؤثرة فيها ، بل محاولة توصيفية لذات إنسانية نادرة ، لا مهرب من إن وصف الوقاحة يملؤها ويحيط ببعض تمثيلاتها الاجتماعية والثقافية من كل الجهات .كما وإن الإبداع في بعض معانيه إذا كان معادلاً لمرض سايكلوجي ، فهو أيضاً توبة وتنكر لعيوب شخصية واجتماعية تأخذ أشكالاً متعددة أبرزها نفي المساوي والأدنى وتعنيفه بالكتابة .
كانت المرة الأولى التي أتعرف بها على مفهوم " الوقاحة الوراثية " مع فيلم " صمت الحملان " 1991 للمخرج " جوناثان ديمي " حيث يسّخر الدكتور" هانيبال لكتر" كل إمكانياته العلمية والخيالية لتصفية هؤلاء الوقحين وراثياً ، بأسلوب لا يخلو من غرائبية ومزيد من الدّم .
والوقح وراثياً هو الشخص الذي تكون لديه الإستعدادات الاجتماعية والثقافية كمغذيات لإرتكاب أنواع الخيانات والعنف والإضطهاد بحق الآخرين ، سواء كان عنفاً عملياً او بواسطة اللغة كما يحصل عادةً بين المثقفين والأدباء محلياً وعالمياً. وهو أي الوقح وراثياً إمتداد لعائلة او مجموعة من البشر العاديين او النوعيين . وهذه العائلة يمكن أن تكون عائلة حاكمة بالمعنى الاجتماعي او السياسي او الديني او الثقافي ، فيظهر لدينا بالنهاية مجموعة من الأفراد الحاكمين ، كرئيس قبيلة او رئيس دولة او فقيه او متسيّد باسم الجماعة النوعية ، سواء كان بصفة رسمية او يحفر لمجايليه خارج المؤسسة ، حتى تصل السلسلة الوقحة الى أدناها متمثلة بآخر وقح وراثياً وهو الأب في العائلة ، لهذا يحتل موته كرمز في الأساطير والأدب العالمي مكانة مميزة وعلامة على التحرر.
إن تضافر مجموعة من الظروف والعوامل حتى لو كانت إعتباطية في إظهار شخص ما " وقح وراثياً او ثقافياً " هو أن يتسلم مسؤولية وظيفية او إعتبارية معينة ، فهذه المسؤولية مناسبة كافية لان تكشف كل مغذياته الثقافية والاجتماعية الفجّة ، وتجعل منه شخصاً مريعاً يتسرب كل أنواع العنف والإضطهاد من بين كلماته وأفعاله . حيث تُعد فئة السياسيين او العوائل الحاكمة سياسياً من أكثر الفئات وقاحة في السلسلة ، للأثر التدميري الذي أحدثته في قشرة وجوهر الإنسان ، وليس أكثر تدليلاً على ذلك من الحروب التي حصلت في تاريخ العالم وتحصل في الشرق حتى الآن .
تليها الفئة الثانية وهي فئة المثقفين والتي ستأخذ الحيز الأهم في طموح هذه المقالة لأهمية هذه الفئة ومكانتها في إحداث أي تغيير على صعيد الذوق والوعي ، وايضاً لما تضطلع به من معارك وغارات جانبية لا علاقة لها بالإبداع نفسه ، بل بالهم الذاتي والسايكلوجي المرتبك للفرد المبدع . فنحن أمام شخصيات مهمة ، مركبة ومشطورة الى أجزاء متعددة ، او فلنقل إننا أمام شخصية " هاري هاللر " في رواية " ذئب السهوب " لـ هرمان هيسه ، فهو شخص مركب بطريقة مفزعة إنه " ذئب تغطيه طبقة رقيقة من الإنسانية " .

في سؤال لماذا لا يستطيع الإنسان النوعي أن يشبه ما يكتبه ويصنعه من جمال ؟ نكاد نضيع في تحديد الإجابة الدقيقة والجامعة لهذا اللغز الإنساني المحير،رغم توفرمعطيات علمية كثيرة في مجال علم الاجتماع ، وعلم الانثربولوجيا، وعلم النفس وفرويد واحد من أهم المنشغلين على هذه المنطقة ونستطيع إجمال ما توصل اليه بهذا الخصوص،حيث يعتقد إنها نتيجة لأمراض وراثية ونفسية واجتماعية متعددة أبرزها  الفصام والازدواجيةبينما يذهب هرمان هيسه الى مديات أكثرعمقاً وغرابة ، إذ يفترض إننا أمام كثرة داخل الجسد الإنساني الواحد ، وهذه الكثرة عبارة عن   تراص مخلوقات أخرى غير الإنسان نفسه داخل قشرته الجسد ، يمكن أن تكون حيوانات او حشرات ويمكن أيضاً أن تعيش هذه الحيوانات جنباَ الى جنب من دون أن يحصل بينها أي تصادم ، بل على العكس أحياناً يشعرهذا الإنسان إنه "ممتن للحيوان اوالحشرة التي تقيم وتطغى داخله" ، فهناك جسد يسكنه قرد او سمكة الى جانب الإنسان وهما في حالة وئام تام ، لكن في حالة بطل الرواية المتقدمة"هاري هاللرالموقف مختلف ، فهو غلاف بشري يعيشان داخله ذئب وإنسان يشطرانه الى نصفين وهما في حالة تضاد دائم ،الإنسان في حبه للشِعر واللون والموسيقى ، والذئب للدّم والافتراس والضغينة ، وكل واحد منهما يفرض طبائعه بمعزل عن الآخر ويحاول أن يسود وينتصر.وبالتالي فهذا التحليل الرمزي الكثيف يقترب كثيراً للاجابة عن هذا السؤال المتكرر في تحديد الطبيعة الانسانية عموماً وما نريد التوصل إليه وفهمه في هذه المعادلة التي ينبغي ان يكون فيها السيد هو الطرف الذي يسعى لاحداث الجمال وليس نقيضه.

قد يتعذر علينا إيجاد الشخصية الخارجة عن الأضداد داخل حلقة المثقفين ، كونهم بشراً عاديين في أغلب جوانبهم ويصدق عليهم ما يصدق على أي إنسان آخر في سلوكياتهم الإنسانية والاجتماعية . لكن ما يثير الإهتمام أن هذا العادي او الأقل منه يتشكل ويزحف على الخطاب الثقافي والإبداعي الخالص والرسمي ويصبح جزءاً منه ، بل يتحول في بعض الحالات الى سلعة للإنتشار والترويج ، وبالتالي ما يؤخذ على هذه الصراعات والغارات ، إنها خطابات معلنة ومكتوبة وثقافة رائجة ، لم تسقط فيها فئة وقحة أخرى مثل فئة الفقهاء ، فهؤلاء لديهم ما ينوب عنهم في صراعاتهم المشينة على الزعامة والتسيّد ، ولم تظهر هذه الصراعات على شكل خطابات مدونة ومعلنة إلا نادراً وبقيت في إطارها الشفاهي المطمور.

تتنوع بنية الضغينة في خطاب المثقف حسب الجنس الأدبي او النوع الشعري وتحديداً الشعرالعمودي " الشاقولي " لغنى هذا اللون بأغراض شعرية متعددة كالرثاء ، والمديح ، والهجاء وهذا الغرض او القصد الأخير يشكل بنية جوهرية في وعي الشاعر العربي الكلاسيكي ، حتى إنتقلت عبره وتحولت الى خطاب وفعل يغذيان المجتمع والسلطة والمثقف معاً ، منذ التحقيل الجاهلي مروراً بالإسلام ومراحله ، وصولاً الى حياتنا الراهنة ، إلى أن أصبحت الضغينة في بعض الخطابات النقدية المعاصرة والأعمال الروائية تشكل مقابلاً او تنويعاً لهذا الغرض واشتقاقاً منه .

كتب جهاد فاضل في " أدباء عرب معاصرون " الصادر عن دار الشروق الطبعة الاولى 2000 عن واقع التحولات الثقافية والأدبية وطبيعة الصراعات القديمة المتجددة بين أنصار القديم والحديث في خمسينيات وستينيات القرن الماضي . حيث يتّسم هذا الكتاب بالتوازن على المستوى النقدي ، وأيضاً في عرض نماذج لبعض الصراعات بين الأدباء والمثقفين العرب ، باستثناء الحصة المخصّصة للسيّاب . فهي لم تكن حصة متعلقة فقط بمنجزه الإبداعي ولا بريادته لشعر التفعيلة ، بل بشخصه المسلوب حياً وميتاً. يقول عنه المؤلف في الصفحة 195 " كان بدر شاكر السيّاب شاعراً قبل أن يكون أي شيء آخر او لنقل إنه لم يكن سوى شاعر ، فلم يكن مفكراً مثلاً او باحثاً او حتى ناثراً ، وقد كتب يوسف الخال مرة في مجلة فصول اللبنانية عنه إنه كان ينقح للسيّاب شعره وإن مجموعته أنشودة المطرالتي أصدرتها مجلة شعر خضعت لتنقيح أسرة المجلة " وفي الصفحة 201 وتحت عنوان " رسائل السيّاب الى يوسف الخال " يزيد المؤلف النعوت القاسية ضده ، فكانت أوصاف " إنتهازي ، ساذج ، مرتزق، متسوّل ، يعمل مع مؤسسة تابعة للمخابرات المركزية الأمريكية " منظمة " حرية الثقافة " هي أبرز ما يميز مستطيلات السيّاب داخل الكتاب . حتى يخيّل إن حصته هجينة ونشاز وليست داخلة في نية المؤلف كحلقة نقدية رصينة ومنسجمة مع مادة الكتاب عموماً ، رغم أنه يتعرض للتشكيكات التي طالت طه حسين ورئاسته لمجلة " الكاتب المصري " وايضاً يتعرض لسرقات أدونيس ، والمازني ودفاعهما ضد هذه الإتهامات . لكن يبقى السيّاب غير مشمول بالتقدير الكاف عند المؤلف ، وربما يعود عدم التقدير هذا الى إن بعض المؤلفات يلزم أن يكون فيها مناطق جحيم او فلنقل مصح أخلاقي تأهيلي ، يكون مخصّص للشخصيات النوعية " الإنتهازية " و" المتسوّلة " حسب ما يترضيه وعي الكاتب ومزاجه في وضع الصفات المناسبة ، وحسب ما تمليه مقتضيات النقد ! حيث يعلّل المؤلف هجومه هذا على إيمانه " بضرورة إرساء تقاليد صارمة في الحياة الأدبية ، فإذا كانت المجاملة جائزة في الحياة الاجتماعية فإنها ينبغي أن تدان في الحياة الأدبية " مقدمة الكتاب ص 7 .

لا يختلف كثيراً كتاب " الموجة الصاخبة " الصادر عن دار الشؤون الثقافية العامة ببغداد 1994 للناقد والشاعر سامي مهدي عن النموذج الأول حيث يتميز القسم الثاني من هذا الكتاب " تحولات النص " بجهد نقدي عال ومخلص للتجربة الشعرية الستينية عموماً ، لكن يبقى القسم الأول منه مُعد حصرياً للنيل من الكاتب والشاعر فاضل العزاوي وعبد القادر الجنابي ومؤيد الراوي وغيرهم من شعراء الستينات ، ولم يلتحق بالقسم الثاني من الكتاب غير فاضل العزاوي كمثال لتحولات النص تلك ، مع مكانة لائقة كما يستحقها الشاعر الكبير سركون بولص ، تاركاً عبد القادر الجنابي ومؤيد الراوي في صحراء القسم الأول يعانون من إرتفاع درجات الحرارة مع حصّص كافية من الوصف بالأميّة حيث يذكر في الصفحة 279 " كان من الإسراف أن ينسب مؤيد الراوي الى الشعر ، حتى في كتاباته النثرية " .
وهكذا هو الحال مع كتاب " إنفرادات الشعر العراقي الجديد " للشاعر عبد القادر الجنابي والذي صدرعن دار الجمل 1993. وهو كتاب دارت حوله معارك وشبهات كثيرة ، كما إنه دوّن على عجل للرد سلفاً او إستباقاً لما هو متوقع من سامي مهدي في " الموجة الصاخبة " لمعرفة عبد القادر الجنابي المسبقة بفكرة الكتاب ، فأراد أن يحصد الفرصة بدلاً منه ، وأيضاً لتقديم رؤيته النقدية المثيرة للتقدير والجدل حول الجيل الستيني في العراق وتحديداً جماعة كركوك . لكن تبقى فكرة النيل والخصومة حاضرة بكل طاقتها السلبية التي تساوي طاقة الوعي في معنى الشعر وأهميته نقداً وتمثيلات ، لدى أسماء شعرية ونقدية مرموقة كفاضل العزاوي وسامي مهدي وعبد القادر الجنابي وآخرين .

تمثل رواية " بابا سارتر" لعلي بدر إنموذجاً مطاوعاً للعمل السردي المركب والمزدوج ، فهوعمل تتجاور وتتمازج فيه السخرية الإحترافية العالية مع الأنساق الثقافية السالبة ، كالضغينة والاحتقار المناطقي . حيث تتمحور هذه الضغينة حول الخطاب النقدي والشعري الستيني في العراق بوصفه نتاج وعي وعقل لمجموعة من المتفاعلين مع الخطاب الفلسفي الوجودي في العالم وفرنسا تحديداً . والملاحظ على هذه الضغينة إنها وقعت على التجربة الستينية وممثليها الحقيقيين ، ولا يمكن عدّها وما نتج عنها من حراك وتفاعل فلسفي وفكري ونقدي ، بمثابة الهامش والمفتعل حسب ما تصوره الأحداث والشخصيات في الرواية . ولو حدث أن أصغينا اليها وفق هذا التخيل الذي يذهب اليه علي بدر، لاصبحت كل هذه التجربة وما صاحبها من تفاعل وتأثيرات على التجارب اللاحقة محظ سخافة وهراء وعربدة  لغوية لا معنى لها كما تصوره الرواية ، وبالتالي من حقنا أن نتسائل : ما الذي سيبقى من الثقافة العراقية إن سخّـفـنا القواعد الفنية والأدبية والنقدية لتلك الفترة ؟ وهل يمكن عزل كل هذا التجريب عن تأثير الوجودية في آداب وفنون العالم والمنطقة عموماً ؟ أين سنحيل قصائد حسين مردان العارية وإن كانت لا تنتمي لتلك الحقبة لكنها في قلب الفكرة وانفعالاتها ؟ ماذا عن مجلة " الكلمة " وحميد المطبعي وموسى كريدي ، عن مجلة " شعر 69 " والبيان الشعري الستيني ، عن الاسماء المتقدمة والمسكوت عن نصفها الآخر، وصلاح فائق وجماعة كركوك ومجمل الستينيين ؟!. إنها أسئلة مشروعة تواجه النسق الثقافي المشحون بالضغينة داخل الرواية التي يختلط فيها الهامشي مع المتن ، والممثل اللائق لتلك التجربة مع المزيف.

لا تقتصر هذه الظاهرة الثقافية الأصلية على منطقة جغرافية دون أخرى بل هي شأن تشهيري عالمي ، وليس كتاب البريطاني بول جنسون " المثقفون " 1998 الذي يضم تشوهات لأبرز مبدعي العالم ، كـ بريخت ، وهمنغواي ، وتولستوي ، وماركس ، وسارتر، وجان جاك روسو إلا واحداً من أكثر الكتب فضحاً للأوجه الثقافية والأدبية الشهيرة في العالم ، بل ويندرج نفس الكتاب بوصفه مزرعة غنية للضغائن في ذات السياق التي عليه صورة المثقف عموماً . إذ يقول عن ماركس " كان جاهلاً بعالم المال والصناعة طوال حياته ، وإنه شخص متعجرف وراشح بالإزدراء ، وكان من عادته أن يرد على من ينهاض أفكاره .. سوف أمحوك من الوجود " أما عن الكاتب المسرحي انريك آبسون فيقول " نشأ ضئيل الحجم قبيحاً وأن هناك إشاعة تقول إنه طفل غير شرعي لرجل مجهول " وعلى هذا النسق من الضغائن يوزع بول جونسون إحتقاناته على البقية .
إنه حفل شواء جماعي وعالمي يتصاعد ويتطفل فيه الهامش الاجتماعي على المتن الثقافي ، ويتطور من صراعات ووشايات بين أفراد وجماعات ، الى صراعات بين مدن ومقاطعات ، فداخل البلد الواحد يمكن أن تحتقر العاصمة بقية المدن والأطراف كما في النموذج الروائي المتقدم.

لم تأت فترة زمنية كفترة ظهور وسقوط الدكتاتوريات في العالم لكي تتحول الى مناسبة غنية وربيع خصومات بين المثقفين ، والأمر لا يتعلق فقط بالمباديء والقيم الأخلاقية التي تستدعي الإدانة والتقويض لكل ما يتصل بدعم وصناعة الدكتاتور، إذ غالباً ما ينكشف هذا الأمر على إنه قناع وصراع ذوات إنسانية تعاني من مشاعر إضطراب وكراهية حادة وقد لا نخطئ التقدير فيما إذا حاولنا إعتبار معظم الوشايات والقوائم السوداء التي تم أعدادها فيما بعد2003 على انها كانت تساند الدكتاتور في العراق تحديداً ،كأسماء مثقفين وأدباء وفنانين ، هي نتاج تلك الصراعات وتجسيد لها.

إن الصراع بين السابق واللاحق او بين المتجايلين كبشر عاديين او نوعيين هو صراع قديم يعود الى الإنسان الأول ، ربما يكون الأصل في هذا الإنسان الوقاحة بينما التهذيب والسلم هما الطفرة .
كذلك فإن هذا الصراع بين السابق واللاحق او بين أبناء العمومة " الجيل " - على إختلاف الأجناس الأدبية التي يشتغلون عليها - هو صراع إنفصال وإتصال ، إنفصال على صعيد المنجز الإبداعي والتجريب لغةً ، واسلوباً ، ومعنى وهو حراك معافى ، وإتصال على صعيد الوقاحة النوعية والحفاظ عليها سارية كنسق ثقافي فإذا كان المتنبي يَعَضّ مجايليه بواسطة اللغة ، فلا بدّ أيضاً ان يَعَضّ اللاحق أبناء العمومة بالموهبة . فترى مثلاً مجموعة من الشعراء الجميلين يغيرون على شاعر جميل آخر، يسلبونه سلسلة عنقه ، وأقراطه ، وألوان ثيابه ، ولا نعرف هل كانت أُذن سعدي يوسف وأقراطه جزءاً من الشعريّة العربية ؟! أم جزءاً من الإنحطاط السياسي في العراق ؟! لقد تداخلت الموضوعات فيما بينها حتى لم نعد ندري أيهما ينتمي للنقد الخالص وأيهما لسلب الحُلي والكرامة .