مهند يعقوب
" للأشياء القبيحة خصوصية فنية
قد لا نجدها في الاشياء الجميلة
وعين الفنان لا تخطئ ذلك ".
فينسنت فان غوخ
" للأشياء القبيحة خصوصية فنية
قد لا نجدها في الاشياء الجميلة
وعين الفنان لا تخطئ ذلك ".
فينسنت فان غوخ
يكتسب كل من القبيح والجريمة كموضوعات في الأدب والفن التشكيلي والسينما ، جماليتهما من الموهبة ، والذكاء ، والحساسية الفنية المفرطة لدى المبدع ، لتنجيز الشكل او الفعل الجمالي نفسه وتحريك تلك المواضيع فيه . كما وان نقل القبيح والجريمة فنياً ، أكسب هذه المواضيع بعداً مختلفاً ونقلها من خامات مباشرة مستبعدة ومطرودة ذوقاً ، الى صور وأفكار وفلسفات تأخذ " خصوصيتها الفنية " من جماليات الصناعة وعمق الافكار، في تأويل وفهم القبيح والجريمة معاً .
ليس الميل لكشف جماليات القبيح ميلاً اعتباطياً او صناعة طارئة ، انه جزء من العالم والوجود ، بل جزء من الطبيعة الانسانية التي لم تستكمل بعد العلوم والمعارف الحديثة كعلم النفس والاجتماع والانثربولوجيا كشف خريطتها بالكامل ، وكيف تتشكل لديها النوازع والافعال التي نطلق عليها فيما بعد خيراً او شراً ، وهو ايضاً اي القبيح جزء مساو في ذات الطبيعة الأم وداخل في قوانينها " اشتقاق الطيب من الخبيث والاعتماد عليه والعكس " والشر عندما يرتفع الى مستوى مكافئ للخير تنعدم لدينا الخيارات بينهما في الترجيح وهذا يعود الى القيم الجمالية ذاتها .
ان مبدأ " الرؤية الجمالية الحرة " لدى الفيلسوف كانط جاء ليحقق تمايزاً لصالح فلسفة الجمال الحديثة والانطلاق في الحكم على الاشياء من الداخل ، اي من خلال عنصري " الفهم " " والتخيل " عند الانسان عموماً وليس وفقاً لتحقق تلك الاشياء في الخارج ، وبالتالي فحصة القبيح نسبة لكانط تنقلب الى حصة مساوية للجمال بل أكثر خصوصية فنية منه ، وهذا يعود الى التناغم بين ملكتي الفهم والتخيل بحسب كانط في طريقة النظر والحكم على الاشياء . كما وان جماليات الفعل او الشيء تكمن في الاضافة التي يسحبنا الى تحقيقها الفعل او الشيء نفسه ، لان حقيقته تقول بهذه القابلية على الانزياح ، وهذه القابلية تستدعي وجود " عين فنان " محترف لتعيد اكتشاف هذا الفعل وهذا الشيء وفقا لمصيره في الحضور والتشكل على يد الفنان .
تُعد شخصية " الضفدع " Ben whishawبطل فيلم " العطر " 2006 للروائي الالماني " باتريك زوسكيند " وكذلك شخصية الدكتور "هانيبال لكتر "Anthony hopkins في فيلم " صمت الحملان " 1991 من أبرز النماذج التي تمثل طغيان المبررات المنطقية والجمالية في فعلهم الاجرامي على أية مبررات أخرى داخل تلك الاعمال السينمائية ، لوجود قصديّة مباشرة وواعية في صناعة الجريمة على النحو الفني ، وان كانت تلك الأعمال تُصنف ضمن أعمال " المرض في السينما " لكنها اشتغلت على أفكار فلسفية وأخلاقية هي متوفرة من الأساس في طبيعة وجودنا كبشر، نقلاً عن أساطير وأديان وثنية وأعمال فنية ومنحوتات ، مثلما تضمن فيلم " التنين الاحمر" 2002 تحديداً كواحد من سلسلة أفلام الدكتورهانيبال لكترأعمالاً فنية ونصوصاً شعرية عديدة للشاعر والرسام الأنجليزي " وليم بليك " وخاصة لوحته الشهيرة " الشبق " او " التنين " التي أخذت مكانة رمزية مكثفة في هذا الفيلم للتدليل على معنى التحول الجنسي عند " فرانسيس دولارهايد " Ralph fiennes ، وكذلك تضمنت أعمال دانتي في الجحيم ، ويهوذا في الأناجيل ، وعلم التشريح كممارسة ، وبعض النماذج من الحشرات والعصافير كطائر " أبو الحناء " وما يشتمل عليه سلوك هذا الطائر من ممارسات غرائبية تتسم أحياناً بالعنف والتخريب . وجميعها كانت اشارات وتضمينات تدفع باتجاه دعم وابراز الخصوصية الجمالية في الجريمة ، التي تفرض الميل اليها وفقاً لطبيعة العمل وعناصره الأبداعية شكلاً ونقداً وتحليلاً وشواهداً .
أياً كانت التصنيفات التي يمكن ان نضع فيها الأعمال والشخصيات الفنية التي أظهرت جماليات القبيح والجريمة ، سواء كانت في سياق عد هذه النماذج البشرية تعاني من أمراض وأزمات نفسية حادة ، او في سياق اعتبار هذه الاعمال انعكاساً لطبائع البشرعموماً. يبقى الاشتغال وشكل الصناعة يمدنا بهذا المعنى والجمال من خلال عناصر العمل نفسه ، ومن خلال الموضوع المفكَر فيه ، والموهبة الخالصة في تقديمه كعمل فريد . وهذا كله كافياً لان نجعل من بطل " العطر " شخصية مثالية في تربية الذائقة الانسانية الى ما هو أرفع من المألوف والعادي ، في سياق فهم وتطوير معنى الجمال وحضوره ، وهو نفسه الذي يجعلنا نعتقد بأهمية نصوص وليم بليك ، وكذلك نصوص الماركيز دو ساد ، وايضاً نصوص الشاعر والقاص العراقي حسن بلاسم ، الذي يُعد حالة مميزة من بين الشعراء العراقيين في طبيعة الموضوعات التي يختارها لنصوصه الشعرية والقصصية الصادمة والوحشية وخاصة مجموعته " طفل الشيعة المسمّوم " .
تجيء الاشارة لهذه النماذج بوصفها أعمالاً اختارت ان تتناول موضوع القبيح والجريمة ضمن سياق جمالي وفلسفي خالص ، وغير معنية في نقل الجريمة كفعل انساني مدان ومرفوض أخلاقياً وقانونياً . وما يجعلنا نهتم بموضوع من هذا النوع ، هو أثره في احداث التطور في النظرة على الجمال مفهوماً وفلسفة وتجريباً ، وكذلك محاولة متواضعة منا لتنسيب صفة الشمول والعالمية الى تلك الاعمال . حيث يأخذ أي عمل كان وفي أي حقل ابداعي صفة العالمية او الكونية نسبة الى سعة انتشاره ، وكذلك حسب ما يندرج عليه موضوع العمل وعناصره الابداعية التي تشكله كحقل ابداعي وعالمي من الأساس . وموضوعات من قبيل الموت او الحب او الحرب ، اندرجت بما يشبه المجاز للتعبير عن كونية العمل او عالميته . والعالمية ليست محددة فقط بالموضوع بما يحمل من صفات جمالية عامة وأهمية انسانية شاملة ، فالليومي ، والذاتي ، والبسيط ، والقبيح ، أهميتهم في اعطاء العمل صفة العالمية ايضاً ، والذي يجعل من هذه العناصر والموضوعات تأخذ هذه السعة والشمول ، هو قدرتها على ان تتحول من حالة ذاتية وجزئية الى فكرة عالمية يتحكم في اعطائها هذه الصفة والمكانة ، شكل الصناعة عموماً والابداع والذكاء والحرفية العالية في تلك الصناعة. وفي هذا السياق لا نستطيع التدليل - اضافة لما تقدم من نماذج - على تحول الجزئي او البسيط او القبيح الى صفة العالمية في السينما مثلاً ، بأكثر من لقطة " طفل الخراء " في فيلم " المليونير المتشرد " 2008 وهي لقطة تحّول فيها الطفلAyush mahesh khedekar الذي يسعى لمقابلة النجم الهندي " آميتاب " الى طفل مصنوع من الريش ، وهو يحاول التخلص من مأزق حبسه بالخلاء ، للحاق بالنجم لكي يوقع له على الصورة. كان مشهد انغماسه في الداخل ويده ترتفع بالصورة الى الأعلى ، مشهداً لا جدال وشك في عالميته وحرفيتة الفنية العالية وأثره الجمالي الشعري الواضح .
لقد تحولت الفضلات الى موضوع جمالي مثير للاهتمام والاعجاب بفضل الموهبة والقدرة على صناعة اللقطة بحساسية فنية نادرة ، والفضلات هنا لم تقل أهمية عن أهمية موضوع الموت وفلسفته في فيلم " الرحيل " الياباني 2008 الحائز على الأوسكار كأفضل فيلم بلغة أجنبية مثلاً. وبالتالي فالبحث عن صفة العالمية ومن ثم اسناد هذه الصفة الى الأعمال الابداعية حسب موضوعاتها لا تحكمه شمولية هذه المواضيع او محليتها ، بقدر ما تحكمه عين الفنان نفسه ، وموهبته الفذة في جعل هذه الموضوعات ذات انتشار وتلقي عالميين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق