مُهنَّد يعقوب
إجراء مقارنة بين الدراما العالمية ( سينما / تلفزيون ) من جهة ، والدراما العربية وخاصة العراقية منها من جهة أخرى ، هو إجحاف بحق الاثنين معاً ، سواء على مستوى الموضوع او التمثيل او الاخراج او على المستوى التقني والفني . وهي بالضرورة أي المقارنة حديث من العالي الى الداني ، لكن لا يمنع ان يتوفر عنصر الطموح لدى صانعي الدراما وفق الميلاد القديم بالتنافس مع المساوي لهم في المحيط وكذلك المباين لهم في الخارج . وبالتالي فالحديث عن صناعة الدراما عالمياً وفرقه عن صناعتها محلياً هو حديث في التقدم والتأخر على كافة المستويات وأهمها الفنون والآداب ، وهو كذلك حديث بالمغذيات الثقافية والفكرية والفلسفية وإختلافها ، وما له من إنعكاس على طبيعة الأعمال الفنية المُقدمة ، فالمغذيات هي المسؤولة عن تحديد مستوى الاخفاقات والنجاحات في أي عمل كان.
في تاريخ الدراما العراقية يكاد يحضر كل ما يساوي طريقة تفكير المجتمع نفسه من الناحية الاجتماعية والسياسية والثقافية ، ويغيب في هذه المحاكاة الواقعية الهزيلة عنصر البطل النوعي والرؤية النوعية، ونعني بالبطل النوعي تلك الشخصية التي تفكر وتطرح قضايا المجتمع بوعي مختلف وطريقة تفكير مختلفة وبلغة مختلفة ايضاً . بمعنى آخر نقلْ المفكر او الفنان الحقيقي كمُنتج ورؤية وخطاب الى فضاء السرد والصورة والحركة في السينما والتلفزيون كبطل وممثلين وأحداث.
إنعدام هذا العنصر يعني بدوره إنعدام الخطاب الثقافي الرسمي عن مجمل التجربة الدرامية في العراق ، فيصبح لدينا في النهاية والحال كذلك تجربة تغذي نفسها من نفس مسائل الهشاشة الثقافية التي عليها المجتمع ، ومن نفس الادوات في طريقة العيش والتعبير لديه ، وبذلك يتحول الخطاب الثقافي الناضج ، والخطاب المعرفي الذي تنتجه المؤسسات العلمية والتربوية الى خطاب يقيم في الهامش او يتم إنتزاعه بعد نهاية الدوام الرسمي بالنسبة لتلك المؤسسات .
إستمر التلفزيون العراقي وخصوصاً المتصل بالسلطة السياسية لفترات طويلة يستثمر بالواقع المحلي المتخلف ويستعير وعيه ولغته وكل ما يتصل به من تفاصيل ، ومثله السينما باستثناء بعض الاعمال ، وصار الاثنان أي تخلف المجتمع ومؤسسات صناعة الدراما وكتّابها في حالة تخادم مدروس بعناية مرة بقصدية سياسية ، ومرة لجهل منتجي الخطاب الاعلامي والثقافي الهش أنفسهم بضرورات العمل على تأصيل وجهة النظر المغيبة او المنفصلة عن الحياة التي ندعوها الثقافة النقدية والفنية العميقة ، فصار لدينا مشاهد يحصل على ما يساويه في الحدث والصورة وطريقة التفكير، ووسائل الاعلام المرئية تعمل على استمالة مستهلكين اكثر لسلعتها الثقافية والفنية المزيفة .
حينما يكون وعي الشارع الركيك هو الواجهة في اي مجتمع ودولة مؤكد ينطوي الامرعلى مفارقة ثقافية كبيرة. ففي العراق ليس فقط السياسي ذو المواهب المعدومة يتحكم ويستحوذ على المثقف ضمن جدلية السياسي والمثقف ، وانما ايضاً وعي الشارع يتحكم ويستحوذ على المثقف نفسه وفي كلا الحالتين لدينا مثقف مهدور الصفة والدور.
اذاً فالشيء الجوهري الذي يَغيب عن صناعة الدراما التلفزيونية والسينمائية في العراق ويعد أبرز إخفاقاتها هو رؤية البطل النوعي وطريقة تفكيره الصادمة والطاردة لمسائل الهشاشة الثقافية التي يحتضنها المجتمع منذ قرون كما لو كان يحتضن بيضة لطائر منقرض.
إن غياب هذه الحقيقة عن الدراما السينمائية والتلفزيونية يعطي فرصاً كاملة لحضور ما هو أقل منها على مستوى الرؤية ، أي حضور الشخصية التي تكون مناسبات إنعدام التفكير الجاد والرصين لديها كثيرة. ولا يوجد أسهل بالنسبة لمنتجي الدراما من الاتيان بشخصية الجنوبي المبالغ جداً في كاريكاتيريته لتكون علامة على حياة الاعمال واستمرارها وعلامة على الواقع، ولا نعرف حقيقةً لحد هذه اللحظة المناسبة الفنية والنقدية التي من أجلها يتم التعامل مع الشخصية الجنوبية كصناعة كارتونية ركيكة لهذا الحد ؟ حيث نكون دائماً وبدون أدنى مناسبة داخلة في ضرورات النص الدرامي ، أمام نموذج غير مسؤول عما يقوم به سواء على نحو يومياته العادية او في سياق خوض التجارب الهامة ، فترى الشخصية كما لو انها شخصية (عبيطة) نسبة (الخبل) لديها عالية ولا يختلف الامر ان كانت هذه الشخصية في سياق عمل كوميدي او تراجيدي ممّا يعكس صورة سلبية وهزيلة عن الشخصية الجنوبية بكل محمولاتها المتعلقة بالكاريزما والتي منها اللهجة . وهذا الامر يكاد يكون ملمح أساسي في الدراما العراقية، قد لا يحتوي على قصديّة سيئة لكنه يعكس بالضرورة إنعدام الحرفية لدى المهتمين في هذا الشأن ، لانه لا يمكن تعقل ان صورة الجنوبي لا تكتمل الا على هذا النحو الهزيل على مستويات متعددة ، ونتناسى ان الجنوب والجنوبي فيه من المقومات كشخصيات ووعي ، تجعله مركزية فنية وثقافية على مستوى المناخ الثقافي والفني العراقي عموماً. ولا نتحدث هنا لإثراء البعد المناطقي على مستوى الفكرة، لكن ينبغي على أقل تقدير ومن أجل إنجاح أي عمل درامي ان تكتمل العناصر الفنية والدرامية على نحو تعكس قصديّة واضحة في صياغة ونحت الشخصية سواء كانت شخصية خارجة من الريف او من المدينة وسواء كانت شخصية جنوبية او من الوسط او من الشمال. وبالتالي فالسؤال الجوهري والمهم الذي ينبغي ان نطرحه من خلال هذه التضمين الاخير هو ، ما الذي يمنع شخصية البطل في العمل الدرامي من ان يقوم بدور الفنان والمعرفي والناقد ، كنص ، وشخصية ، وتفاصيل ؟ لماذا لا يفكر الممثل العراقي في التلفزيون والسينما ؟ لماذا لا يحضر الكتاب والصف المدرسي ، ولاتحضر اللوحة والآلة الموسيقية في تلك الاعمال ؟ ولا نقصد هنا حضور هذه التضمينات كصور وديكور وإنما كرؤية وخطاب معرفي وفني ونقدي خالص. كما يحصل ذلك في السينما العالمية والعناوين التي تضمنت البعد الفلسفي والمعرفي والشعري الخالص في تلك التجارب كثيرة.
محلياً نحن أمام أعمال أغلب شخصياتها لا تفكر ولا تنتج رؤية تساهم في إثراء الواقع وإستعادة الخطاب المغيب ثقافياً وفكرياً الى مكانه الصحيح . مثلما يتوفر لدينا واقع مترد على المستوى الاجتماعي والثقافي ، يتوفر كذلك خطاب ورؤية أخرى متمثلة بالمُبعَد والهامشي في الادب والفن والثقافة العراقية النقدية الحقيقية . والأسباب التي أدت الى ان يتصاعد فيها الخطاب الركيك على حساب الخطاب النقدي الحقيقي تعود الى أزمة جوهرية في العقل العراقي الشعبي والرسمي معاً ، إنعكس سلباً على أداء هذه العقل ونتاجاته الفنية والثقافية ، ومن أهم هذه الأسباب هو هجران الخطاب المعرفي والثقافي نفسه الذي إعتمد الاتصال والتأثر بالحركة الفلسفية والثقافية العالمية في عموم التجارب وأبرزها الأدب والفن . ساعد العامل السياسي وعامل الحروب والازمات كذلك على إتساع واقع الهجران والفصل هذا ، فيما بقيت مسائل الهشاشة الثقافية وإنعدام الذوق النقدي هي المتأصلة والسائدة في المجتمع والمؤسسات الثقافية الرسمية.
وفقاً لما تقدم ليس أدلّ على إخفاقات الدراما العراقية غير سعيها الدائم لتكرار وإسترجاع نفس المواضيع المحصورة في الجانب التاريخي والجغرافي السياسي للعراق والمنطقة ، اما جانب الموضوعات الخالصة كفلسفة الحب ، وفلسفة الموت ، ونقد الدين والمعرفة والآداب والفنون عموماً ، فلا تكاد تحضرالا في سياق مغامراتي محصور وضيق جداً يقتصر على بعض الاعمال السينمائية الجديدة ، والحال كذلك فيما يخص الدراما التلفزيونية فالأمر لا يختلف سوءاً من حيث إشتقاق ومعالجة المواضيع فيها خصوصاً المتصلة بالواقع المعاش وطبيعة الشخصيات ، حيث لم يتم وفي معظم الاعمال معالجتها كمادة خام معالجة نقدية وثقافية رصينة فنياً ، كما هو الحال في صناعة الشخصيات والاحداث في الرواية والقصة العالميتين ، وإنما بقت هذه الشخصيات والاحداث على إخفاقاتها المساوية لإخفاقات وعي الشارع ذاته ، بدون أية معالجة ومن ثم زجها في أعمال أطلق عليها فيما بعد أعمالاً درامية واقعية !. فالاختلاف بالنهاية بين الاثنين أي وعي الشارع ووعي صانعي الدراما هو إختلاف فقط في الأدوات والعناصر والتسمية والاسلوب ، بمعنى آخر الاختلاف بين وعي الكاتب ووعي الشارع هو إختلاف شكلي ، ولكن تبقى الفكرة واحدة ، الشارع بكل ذوقه الردئ يحكم عقل المؤسسة ويقيم فيها .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق