مُهنَّد يعقوب
يرى بعض الفلاسفة الوجوديين " ان ما يرعب ليس الموت ذاته وانما فكرة الموت " وهو الحقيقة غير القابلة للتسويف أوالافتراض من حيث وجودها وحضورها الاكيد كفصل قريب كما يعبر المناطقة يخص الكائن الحي ويرتبط به منذ البدء ارتباطاً لازماً بالمعنى المنطقي لمفهوم اللازم , الا ان الموقف من هذه الحقيقة الساطعة كفهم وتعايش وتفسير وفشل في السيطرة عليها والتحكم بها , جعلها فكرة مقلقة ومخيفة بالنسبة للانسان على مر العصورابتداء من الانسان الاول مروراً بكلكامش وانكيدو وانتهاء بعصرنا هذا وما سيليه , لانها وحسب التصورات الفلسفية المادية تعني الفقد النهائي والذهاب الى اللاشيء أو تساوي العدم , بل هي فكرة مرعبة ايضاً حتى بالنسبة للتصورات الميثلوجية والدينية القديمة رغم تأكيد هذه الفلسفات الدينية والميثلوجية على تفسير معنى الموت كامتداد للحياة بحضورأكثر كثافة وسطوع وطمئنة أو امتداد لعوالم أخرى ممكنة تقع بين عالم الموت وعالم الحياة وهي عوالم لا تختلف تعقيداً وغموضاً عن عالم الموت نفسه , لكن في النهاية يبقى الخوف والرفض هو المسيطر الوحيد على الانسان في مواجهة حقيقة كهذه . وفي ظل هذا الاحتدام المادي والغيبي التأويلي والفلسفي لمعنى الموت تبرز من بين تلك المناطق المعرفية منطقة جمالية ومعرفية أخرى للاقامة في هذا الموضوع شرحاً واقترحاً له من زوايا متعددة , ترتبط بماهيته أو التلميح لها بعناصرغير مباشرة أو التقاط ما يمت لفكرة الموت بصلة وثيقة تترك أثرها في ايضاح هذا المعنى وكشفه , وكيف يمكن النظر له كفكرة مجردة من جهة ومن جهة أخرى تفسير الموقف وردت الفعل منه انسانياً ومجتمعياً , ومن الانسان الذي يسقط عليه الموت وكيف تصبح هويته ميتاً وطعمه في رأي العام والخاص بين الناس والمجتمع , ورايهم كذلك حول المهن المرتبطة بالموت والموتى كالتكفين والتطهير وما الى ذلك , حيث تقدم لنا السينما العالمية اقتراحات متعددة حول اعادة تأهيل الانسان للتصالح والتعايش مع الافكار القهرية والقاسية كفكرة الموت وكيفية صناعة الهدوء الداخلي في استقبال حتمية من هذا النوع وافراغ مستوى الرعب الشديد فيها وتخفيف حدته على نفس الانسان وحياته , مع ان اقتراح من هذا النوع ليس جديداً على الانسان فهو مخاطب بهذه الحقيقة الحتمية على الدوام سواء تناولتها السينما او تناولتها مناطق معرفية أخرى كالفلسفة واللاهوت او الميثلوجيا والشعر وغيرها من المغامرات المعرفية والجمالية التي تبحث في القضايا المهمة والجوهرية المتصلة بحياة الانسان , لكن تتفرد السينما كونها صورة وحركة وفي هذين العنصرين مكانة توصيلية كثيفة وعميقة تتجاوز اللغة لوحدها بوصفها علامة أواشتغالاً مهما كان عميقاً يكون في اطار ساكن , والفرق بينهما هو كالفرق بين ان يتعلم الانسان من الطبيعة والحركة وبين ان يتعلم من اللغة كتوصيل وتلقي . ونحن هنا لا نريد تغليب جانب على آخر من حيث الاهمية في الرتبة بين السينما وبقية الحقول المعرفية والجمالية بشكل اعتباطي وانما اعطاء ما للسينما من امكانات سهلة ومتعددة على التوصيل تفوق بقية الاشتغالات , وامكانية التوصيل لها أثرها في تحقيق مقاصد خاصة وأعني بالمقاصد الخاصة تصوير ما ليس بمرئي ومكشوف بالمقارنة والتشبيه والتقريب بالاثر المادي بصرياً , والانسان في الحقيقة بحاجة ماسة الى ان يمتلك تصوراً فيزيقياً معيناً حول كل شيء حتى وان كان زائفاً أو غيبياً كحقيقة أو فرضية القيامة والجنة والجحيم وحول ما يمكن حدوثه من رعب وكوارث غير متوقعة لا نملك معرفة كافية عنها , فالصورة والحركة لا تمنع وقوع المخيف ولا تؤجله وانما تخفف حدته على المخاطب به وتمتص رعب الحدث القاسي والمفاجئ بقوة وتأثير أكبر, والسينما تتميز بهذا كله كما انها تشترك وتتفاعل مع الاجناس الابداعية والجمالية ذات التوصيل بالكتابة واللغة في عموم الافكار .
يأتي الفيلم الياباني " الرحيل " 2008 ضمن سلسلة افلام تناولت موضوع الموت والموتى وما يرتبط بهم من طقوس وممارسات انسانية ودينية متنوعة , وهو من اخراج " يوجيرو تاكيتا " بطولة الممثل الجميل " ماساهيرو موتوكي " ديجو كوباياشي عازف آلة التشيلو و " رايكو هيروسو " ميكا زوجته , حاز الفيلم الذي كتبه " كوندو كوياما " على الاوسكار عام 2009 كأفضل فيلم بلغة أجنبية , يتميزهذا الفيلم بالاسلوب الواضح والمباشر في تحويل واحدة من أكثر الأفكار خوفاً ورفضاً الى فكرة انسانية شعرية محببة وبسيطة كفكرة الموت وما يرتبط بها من مهن هي في نظر أغلب المجتمعات الانسانية مهن محتقرة وأصحابها محتقرون لانها ترتبط بالدوني والوضيع حسب اعتقاداتهم الدينية ومورثهم الاجتماعي ووعيهم حول الطبقات , واشتغال من هذا النوع يتطلب حرفية ومهنية فنية عالية يقول فان كوخ في رسالته الاخيرة لاخيه ثيو " للأشياء القبيحة خصوصية فنية قد لا تجدها في الاشياء الجميلة وعين الفنان لا تخطئ ذلك " والرحيل قدم لنا انزياحاً جمالياً مبهراً في تناول موضوع الموت من خلال مهنة التكفين التي كان يمارسها ديجو ورئيسه في العمل باناقة وشعرية فائقة جعلت ذوي الراحلين يشعرون بالرضا والتصالح أكثر مع الموت بعد ان كانت هذه الفكرة عند الاحياء بمثابة الاهانة وهي تحصد أرواح المقربين منهم ومحبيهم , وفي هذه الثيمة داخل الفيلم تعزيز لفكرة جوهرية تخص طعم وهوية الانسان ميتاً , فالموت عندما يقع على شخص ما يسلبه عنصرالصراع والمنافسة المتوفرة على مستوى الحياة بين الافراد والجماعات , والمنافسة بالمعنى الانساني والحياتي تتجاذبها صفات انسانية ايجابية عميقة وقد تتجاذبها صفات سلبية كثيرة نراها في حياتنا اليومية ربما تصل هذه المنافسة السلبية لان تتخذ اشكالاً وسلوكيات متعددة كالقتل والنبذ والاحتقار والكره , وفي الموت خروج الانسان من لعبة الحياة والمنافسة بين الاحياء الى عالم آخر يمنحه هذا العالم صفة ومكانه مختلفة تحددها طبيعة الوجع والشعور العميق بالفقد وكأنه يستنهض مشاعر مؤجلة او مطمورة لدى الاحياء لم تكن مستيقظة لديهم في حالة حضوره حياً , تسقط معها جميع الاعتبارات السيئة التي اكتسبها الجميع في لعبة الحياة , وفي هوية وطعم الانسان ميتاً فكرة أخرى مضمرة تكشفها ايضاً مشاعر الشفقة والوجع والفقد التي تستعمر أنفس الاحياء اتجاه الراحلين وهي الاعتقاد أو الوهم السائد ان من يقع عليه الموت يصبح خارج الحيز النظيف باعتبار الحياة هي اشرف العوالم الممكنة ويترتب على ذلك ان تكون منطقة الموت منطقة فاسدة تتطلب التطهير مجرد وقوع الموت نفسه , لكن الفيلم يعكس هذا التصور ويعد فكرة التطهير من الحياة وليس من الموت لاستقبال عالم آخر يتطلب التنقية من عالم يسبقه اي الحياة ذاتها , فالتكفين والتطير للميت من الحياة وليس من الموت , وكما عبر مدير شركة ان كي للتكفين داخل الفيلم " يرمز التطهير للتخلص من عناء هذا العالم وآلامه وشهواته ويرمز ايضاً للاستحمام الاول لولادة جديدة " وفي هذا الاشتغال التأويلي معنى عميق لفكرة طالما أثارت جدلاً فلسفياً وجودياً ودينياً واخلاقياً على مر التاريخ يخلص منها ليس بالضرورة من يستند الى مقولات دينية وعقائدية مقدسة وانما من يمنح الفكرة معنى جمالياً وانسانياً يتسم بالسلم والمحبة والتسامح والموضوعية .
يحتوي فيلم الرحيل على انسجام وتناغم شعري مدروس بعناية فنية فائقة ومتداخلة ليس من جانب الاسلوب فقط وجمالية الصورة وانما من جانب العلاقات البسيطة والكثيفة بين المهن والاعمال والحياة الانسانية خارج العمل , حيث لم تختلف شعرية وجمال آلة التشيلو عن شعرية وأناقة مهنة التكفين وعن شعرية الحجر في لقطة الرسائل الحجرية أو حجر المشاعر, فكانت هذه اليوميات الانسانية والحياتية المتجسدة بشخصية ديجو متوحدة ومنسحمة ككل خارج من خلية واحدة مع انها قد تبدو للوهلة الاولى ذات فصول مختلفة ومتغايرة من حيث الطبيعة والدور لكنها ليست كذلك , فبعد ان أعلن مدير الاوركسترا التي كان يعمل فيها ديجو كوباياشي في طوكيو فصل الاعضاء انتابه شك ان يكون حلمه يتحقق مع آلة التشيلو كعازف محترف في تلك الاوركسترا مثلما كان يرغب والده بذلك منذ ان كان صبياً , وهذه الحادثة جعلت حلمه يتحول الى كابوس خصوصاً ان عليه ديون كثيرة متعلقة بشرائه تلك الآلة بثمن ليس بسيطاً وكذلك جعلته يخاطب نفسه بكثير من عدم الرضا والتوبيخ " هذه الكمنجة لا ذنب لها والسبب ان من اشتراها هو شخص فاشل مثلي فقد خسرت وظيفتها " يقرر بعد حادثة فصله من الاوركسترا بيع الكمنجة والعودة الى المنزل الذي تركته له والدته بعد وفاتها في ريف ياماغاتا " اعتقد انها كانت أكبر نقطة تحول في حياتي ولكن لسبب ما فقد شعرت براحة في اللحظة التي تركت فيها الكمنجة , وكأنه قد اطلق صراحي فجأة بعد ان كنت مربوطاً , ما كنت اعتقد انه حلمي .. ربما لم يكن حلمي الحقيقي " الا ان الكمنجة لم تتوقف عن الحضور بعد هذا الجزء الدرامي ولم يلغ دورها عمله الغريب والجديد في قريته الام ياماغاتا كموظف في شركة تكفين الموتى بل عثر على نفسه فناناً حقيقياً خارج تلمسه الاعمى قبل حصوله على هذا العمل , والمخرج أعتمد بموهبة فذة تضمين فكرة مفادها ان بعض التجارب الحياتية خاصة يتوقف عليها رسم ما عليه الانسان من خطأ أو صواب حول طبيعة وجوده في الحياة وتحقيق مقاصده وطموحاته الانسانية المشروعة , فبعض التجارب ان لم نمر بها تصاب حياتنا بالتلف الكامل بما فيها التجارب السابقة التي نعتقد انها تساوي طموحنا في الحياة , وهذه التجارب الخاصة لا تُصلِح فقط حياتنا من تاريخ وقوعنا في هذه التجربة وانما تُصلِح ما مضى منها ايضاً , والصدفة الذكية التي قادت ديجو لان يعمل في شركة لتكفين الموتى عن طريق اعلان في صحيفة بالخطأ قادته في الحقيقة الى الخريطة الحقيقية لذاته وطريقة عملها بالشكل الانساني المختلف اهلت لديه ما فسد من حياته للاصلاح كعلاقته بوالده المضطربة مثلاً وتصحيحها اوعلاقته بآلة الكمنجة والحياة عموما الى القبول واعادة النظر بها بشكل مختلف , وفي لقطة الحجرالكبيرالذي اخرجه من الكمنجة التي كان قد اشتراها له ابوه ايام كان صبياً استذكار لموقف الاب المتخاذل اتجاه ابنه كما يعتقد ديجو , وتظل لقطة الرسائل الحجرية تتكرر في متواليات الفيلم البسيطة والشعرية بدلالتها الرمزية والانسانية العميقة كترابط ومشاعر حسب حجم الحجر وملمسه كما في مشهد مخاطبته لزوجته ميكا بعد ان قدم لها حجراً صغيراً أملساً " في العصور القديمة وقبل ان يخترع البشر الكتابة كانوا يبحثون عن الاحجار التي تمثل مشاعرهم ثم يعطونها لشخص آخر, والشخص الذي يحصل على هذا الحجر يقرأ مشاعر الشخص الآخر عن طريق وزنها وملمسها , مثلاً الملمس الناعم يرمز للروح المسالمة والملمس الخشن يرمز للاهتمام بالآخرين " وهكذا حتى في اللقطة الاخيرة من الفيلم اثناء قيامه بتكفين والده وجد حجراً صغيراً أملساً بين يديه أسعف في نفسه صورة الاب الغائب عنه لسنوات طويلة , تاركاً لنفسه تحري مكامن الفقد والوجع كما لو انه للتو قد انفصل عن أبيه , وعمله الاخير يُعد تجربة كان لابد ان يمر بها ديجو لاهميتها في ترتيب حياته الماضية واللاحقة وكأن هذا العمل هو ارتباط واستعادة لمكانة الكمنجة في نفسه واستعادة لصورة الاب الذي تركه وأمه وهو في سن السادسة من عمره من أجل امرأة أخرى , فكانت هذه التجارب المتوالية والمتداخلة في حياته كل واحدة تفضي الى الأخرى ومشتقه منها وتقيها من الفشل والانهيار, وعمله في التكفين يعد التجربة الاهم في تحقيق هذا التداخل مع بقية التجارب واصلاحها رغم ان عمله هذا وضعه في مواجهة تحديات صعبة امام نفسه في البداية وزوجته والمجتمع في رفضه لمهنة محتقرة لديهم وصل لحد ان هجرته ميكا بعد ان وصفته بالقذر في حوارها معه اثناء اكتشاف أمرمهنته الجديدة وكذللك موقف صديقه الموظف الحكومي السلبي كان للسبب نفسه بل وصل الامر في واحدة من اللقطات المثيرة اعتباره شخصا يعمل في هذا المجال للتكفيرعن ذنب عظيم اقترفه في حياته , الا ان ديجو تلمس ما لهذا العمل من مكانة وقوة تأثيرعلى حياته الشخصية جعلته مدركاً على ماذا ينطوي معنى عمله الانساني في الحياة وانعكاساته الايجابية على مستقبله , وقد ساعده في ادراك هذا المعنى ايضاً رئيسه في العمل ذلك الشخص التأملي الهادئ والرصين الذي يشتغل بقوة الحدوسات كما وصفته الموظفة التي تعمل لديه في مكتب الشركة وكإن عمله في تكفين الموتى أكسبه حكمة ووقاراً فائقاً مثلما اكسبت هذه الفكرة الفيلم مكانة فنية مرموقة في تناول موضوع جوهري وانساني كبير كهذا بتقنية واسلوب وتوصيل وذائقة شعرية مبهرة استحق من خلالها ان يكون أحد الاعمال السينمائية العالمية بامتياز.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق