الأربعاء، 17 مارس 2010

فراشة على قميص روبن وليامز

مهند يعقوب

كل فناء لا يعطي بقاءً لا يعوّل عليه " محيي الدين بن عربي "

يحتل رمز الفراشة في الفكر الانساني الباطني والنقدي المدوَّن مكانة مميزة ومهمة منذ الحلم الذي أعترض الحكيم الصيني تشوانغ تسو في القرن الثالث قبل الميلاد , وكيف تحول تشوانغ تسو الى فراشة في ذلك السطوع الباهر وتحولت الفراشة الى تشوانغ تسو نفسه , مروراً بالاثر النثري الصوفي والمحاولات النقدية الاخلاقية والفلسفية , التي حاولت تفسير هذا الرمز وأعطاءه دلالاته الباطنية العميقة كعلاقة تحكم الكائنات الحية ذات النوع الواحد او مختلفة النوع فيزياوياً ووظيفياً , لتحولها كشيء واحد مرتبطاً ارتباطاً وجودياً دالاً " ان كل شيء هو كل شيء آخر " كالارتباط بين الاثر والمحيط , أو كالارتباط بين الصورة والمرآة .
نجحت السينما الى حد كبير في أعمال كثيرة تتضمن هذا المعنى الوجودي الصوفي العميق كعلاقة وَجدْ وتوحد في كثير من الاعمال , ليس برمز الفراشة تحديداً وانما بطاقة هذا الرمز كما في فيلم " متى يأتي حلمي " 1998 للمخرج " فنسنت وارد " بطولة الممثل الرائع "روبن وليامز", وفليم " المشي فوق السحاب" 1995 للمخرج "الفونسو أرو " بطولة الممثل المميز " كيانو ريفز" والممثل القدير "أنتوني كوين " وغيرها من الافلام السينمائية الباهرة ,ولا نريد هنا في هذي المحاولة المتواضعة للحديث عن رمز الفراشة ان نتعقب تأريخ تضمين السينما له ومتى بدأ تحديداً , أوالبحث في الاثر النثري الصوفي وتنوعه تأريخياً وما قيل من أراء نقدية وتطبيقات حول هذا الرمز , وأنما محاولة لتعقب بعض الاعمال السينمائية التي تتضمن هذا الرمز والاضاءة كدلالة عن العشق والوجد في العلاقات الانسانية , وتحقيق الهدوء الداخلي وطرق امتصاص الحياة والسعادة كهدف انساني سامي كما في فيلم ("باتش آدمز " والذي سيكون محور مقالتنا هذي في لقطة وحدث لا يتعدى حدود الدقائق المعدودة داخل الفيلم , لكنه يمثل الاضاءة الاكثر أهمية في رأيي , وهي لقطة موت الحبيبة ودخول رمز وعنصر الفراشة وانتقالها من الحقيبة الى ( القميص ) كدال على ارتباط وثيق وقديم بين الحبيبين وهو ما يطلبه ( باتش آمز) نفسه كاشارة وخاصية لحبيبته المفقودة بعتاب حاد وموجع مع السماء - كما ستناوله - التي بدورها تستجيب لوجعه وطلبه برمز يحتل مكانة مهمة وكثيفة في التراث الصوفي والفلسفي و بعض النظريات النقدية الحديثة .

تتمحور فكرة الفيلم حول مناهج التربية وطرق التفكير لعلاج مشكلات الانسان خارج سياق النظرة السائدة التي عليها المجتمعات والمؤسسات العلمية والتربوية , ليس فقط في أطار المشكلات التي يحاول الفيلم معالجتها من الناحية الصحية والنفسية , وأنما حتى من الناحية الساسية والفكرية والثقافية عموماً وبشكل غير مباشر , حيث تدور أحدات الفيلم حول شخصية تدرس الطب في احدى الجامعات الامريكية ضمن السياق العلمي الالي والجامد كمنهج في معالجة الامراض العضوية والنفسية للمجتمع والناس الذين يعانون من تلك الامراض الحادة والمستعصية ,لا يستطيع هذا الطالب تقبل هذه المناهج في النظرة لمشكلات الانسان الصحية وحصرها في اطار البحث العلمي والتجريبي وطرق معالجة المرضى بالادوية خارج المحمول العاطفي كعلاقة بين الطبيب والمريض , فيعمد على ان يسقط تجربته الشخصية في النظر للاشياء كعلاقة يحكمها بالدرجة الاساس العنصر العاطفي والانساني المحض كمحرك اولي في التعاطي مع المريض وقابليته على الاستجابة للعلاج كيميائياً , والصعود باستعداده النفسي الى مستوى الشعور بالسعادة , التي ينقص المنهج السائد , وينقص الكادر الطبي بالدرجة الاساس العمل عليها وتحقيقها , حيث يبدأ "روبن وليامز" بشخصية باتش آدمز داخل الفيلم الى بسط تصوره الجديد الساخرمن المنهج داخل الجامعة ومن طرق العلاج الجامدة والخالية من العنصر العاطفي كأجراء علاجي للمرضى مما دفع بمدير المستشفى وهو نفسه عميد قسم كلية الطب التي يدرس فيها الى تحذيره من الممارسات غير الرصينة التي يتعامل بها مع المرضى داخل المستشفى حسب وجهة نظره من قبيل اداء بعض الحركات البهلوانية لقسم الاطفال المصابين بالسرطان وتحويل اجهزة وادواة العلاج في المستشفى الى رموز مضحكة لادخال البهجة والسعادة الى نفوس الاطفال , وان لا يكرر هذه الاعمال الصبيانية لانها تتنافى مع الهدوء الذي يتطلبه الجو في المستشفى واللازم لعلاج المرضى واستجابتهم له , يستمر باتش آدمز بطرح افكاره الجديدة كطرق علاجية وتطبيقها على المرضى للحد الذي يصل مستوى الاستهجان والرفض لما يقوم به الى ان يهدده عميد الكلية بالطرد والفصل من الكلية ومنعه من التطبيق داخل المستشفى ويصل مستوى الاستهجان حتى على مستوى زملائه بالكلية حيث ترفض " مونيكا بوتر" - التي ستجمعها علاقة عاطفية باطنية عميقة مع باتش آدمز- تصرفاته الساخرة من المنهج وطرق العلاج لحد وصفه بالمهرج داخل الفيلم .
تبدأ افكار باتش آدمز بعد سلسلة من المواقف الحرجة والصدامية مع عميد الكلية وبعض الاطباء بالقبول وتحقيق نتائج ملموسة بالنسبة لبعض الكادر الطبي داخل المستشفى وبالنسبة لبعض الزملاء , وتبدأ " مونيكا بوتر" بالميل العاطفي " لباتشز آدمز " بعد ان تلمس الدفء والثقة الداخلية الحميمية التي تحكم شخصيته وانعكاساتها على سلوكياته اليومية وتأثيراته الشخصية عليها وعلى المرضى بدون فاصل بين ما يتطلبه العمل والدراسة , وبين سلوكه الانساني العادي , فتجمعهم علاقة حب يعمد المخرج الى اظهارها كدال مركزي داخل الفلم وكاشارة وأضاءة مهمة لها مدلولها الرمزي العميق حول طبيعة العلاقة التي تجمعمها , فبعد ان يصل مستوى الرفض لسلوكيات باتش أدمزالى الحد , يعمد المدير الى طرده خارج المستشفى ’ ويعمل هو على تحقيق طموحه المستقل لطرح افكاره خارج المؤسسة الرسمية ومن دون ترخيص أيضا وينجح لحد مثير باستقطاب المؤديدين لفكرته في لمعالجة المرضى , ومن ثم تتوالى الاحداث لتصل الى النقطة الاكثر اثارة وهي حادثة مقتل حبيبته على أيدي احد المرضى النفسيين الذين كانوا يترددون على المستشفى , وحينما يستقبل باتش آدمز خبر مقتل حبيبته يصاب باكثر من الدهشة والحزن , ينسحب أعمق داخل نفسه وتضطرب الفكرة الجوهرية التي اعتمد على تأصيلها منهجاً ونظرة لحياته الخاصة والعامة من خلال أنهيار ما هو أعمق من المنهج والنظرة وطريقة التفكير او ما هو مشتق منه اي المحرك , انه امام فقد ووجع ذاتي , انه يفقد الجسر الذي يعبر به الى نفسه والحياة وآلاخر, يفقد قيمته الوجودية وعلاقته بالمحيط كأثر يغذيه الوجد والعشق لحبيبته , فتنهار كل مشاريعه حول المنهج وطموحات التغيير التي كان يؤمن بها , وقبل ان يعمد الى العزلة يذهب الى المكان الذي اخذ حبيبته له , المكان الغيمة او البساط الاخضر, حاضن الحبيبة , والناس , والطريق لهم , وهو نفسه مكان المستشفى , بيت صغير متواضع على سفح الجبل يطل على منطقة ساحرة بطبيعتها , ويبدأ عتابه الحاد مع السماء , انه كان ينبغي ان تكون اكثر رحمة " انك خلقت الكون في ستة ايام فلِمَ لم تجعل اليوم السابع للشفقة " " ان كنت حقاً موجود أرني شيئا يخصها "
كان يبحث عن خلاصه في رمز هو ذاته وحبيبته ذاتها والكون والحياة ذاتهم انه يبحث عن رمز يعني الكل في واحد يعني " ان كل شيء هو كل شيء آخر " يبحث عن بقاء الوسائط نظيفة وسليمة ذات طاقة داخلية تعمل على نقل التجربة الانسانية والاقامة فيها , الوسائط الداخلية والباطنية التي تؤمِّن للشخص الارتباط بالآخر وتعبرعنه كعلاقات بدون حواجز وبدون أفكار زائدة عن أصل الفكرة وجوهرها الوجودي , فتستجيب السماء لانه يعرف ان هنالك حقيقة لهذا طلب المعنى ليستريح ويطمئن ويستمر في الحياة . والمخرج (توم شدياك ) في الحقيقة تقصّد بمهارة في هذا التحفة الفنية اظهار هذه الاضاءة واللقطة بحيث تبدو داخل النسق وداخل الفكرة المركزية للفيلم باستخدام اكثر الدلالات تعبيراً ومحركاً للحياة والكون , انها (الفراشة ) التي تعني التوحد والانسجام والاستغراق في النفس والاخر (الانا والـ هو) والتي كان ينتظر بطل الفلم سطوعها على حياته من جديد بعد تحديه للسماء في الفيلم , حيث يبهره حضورها الاكيد مبتدئة التنقل من حقيبته على الارض الى ( قميصه ) مستدركة كل المعاني التي اهتزت عنده بالفقد والوجع والخذلان , وتجميعها من جديد في ذاته القادرة ابتداءً على صناعة هدوئها الداخلي وشراكتها وانسجامها مع المحيط والاشياء برؤية الحقيقة والاستمرار بحياته من خلال نفس الرمز الذي أعاد آدمز من جديد للايمان بمشروع حياته الانساني في معالجة المرضى والنظر للاشياء والحياة انها كل منسجم واحد .
بهذا الاشتغال والموهبة العالية تكون السينما قد نجحت نجاحاً باهراً بهذه التضمينات العميقة , ومن ثم يكشف هذا القصد السينمائي داخل الفيلم ومن خلال لقطة ( الموت ) و ( الفراشة ) محاولة السينما نفسها ونجاح هذه المحاولات في الاستعارة والاضاءة او التطابق مع الخطابات النقدية الحديثة لرمز الفراشة , ونظريات علم النفس , ومع الاثر النثري الصوفي والباطني , وبعض اعمال الرسامين العالميين , وهي تشترك وتتفاعل وتسعى جميعاً للكشف عن طبيعة الذات الانسانية واشتغالاتها والمغذيات التي تتحكم في صياغة مشروعها الانساني , وتحدد طبيعة العلاقات التي تحكم الوجود والكون والكائنات عموما وتجعل من هذه التجربة الباطنية رمزاً للوجد والتوحد والانسجام والتناغم , وتجعل ايضا هذا الاشتغال قابلاً للتحقق والتأثير, تمثل الفراشة رمزه ومختصره ومعناه الكثيف والساطع .













ليست هناك تعليقات: