السبت، 13 نوفمبر 2010

عن فيلم البدء وأوهام الترجيحات

مهند يعقوب


ليوناردو دي كابريو وإلين باج
يثير فيلم البدء او البداية Inception 2010 للمخرج كريستوفر نولن افكاراً وتفاصيلاً كثيرة ذات طابع غرائبي معقد تتصل بالفهم العام لمقاصده النهائية ، فهو ليس من الافلام الواقعية البسيطة التي يمكن فهمها وهضمها بسهولة ، ويحتاج الى أكثر من مشاهدة متأنية ودقيقة من أجل الامساك بفكرته الجوهرية فضلاً عن إجتراحه وفق المنطق التأويلي والجمالي والنقدي المتبع في قراءة ومتابعة الاعمال السينمائية التي بهذا الحجم والمستوى الفني والمعرفي العالي . اضافة الى ما تقدم فهو يحتاج كذلك الى معرفة كافية بمرجعياته المعرفية والفكرية إن وجدت ، وفي حال العكس عندها نكون امام خيال موضوعي صادم ينطوي على الكثير من الحيل ذات الطابع المعرفي والفكري والفلسفي ، وفي كلا الحالتين نحن امام عمل يستحق المتابعة والحديث بالمستوى الذي يليق وحجم اخراجه وتضميناته الفكرية والتقنية .

تأخذ الأحلام في متواليات الفيلم السردية والبصرية أبعاداً واسعة ومختلفة غير التي سعى الى كشفها فرويد عبر ثنائية الوعي واللاوعي في علم النفس التحليلي ، وكذلك التي تحدث عنها ميشيل فوكو في كتابه تاريخ الجنسانية - الانشغال بالذات ، فالأحلام عند كريستوفر نولن وان كانت تولي اهتماماً بالغاً لفكرة اللاوعي عموماً وتحصيناته عند الفرد من أجل منع الاختراق او تحقيقه ، الا انها ليست أحلاماً من أجل التأويل والتفسير وانما أحلام من أجل القرصنة زرع او سرقة معلومات وأسرار، فالحديث عن أحلام نولن في فيلم البدء هو حديث في الآليات الغريبة المتبعة لصناعة ( أحلام مجازية ) ذات طبقة واحدة او متعددة الطبقات والدخول فيها لتحقيق ذلك الاختراق وليس حديثاً في ( النقد الحلمي ).

تركز اهتمام كريستوفر نولن على جملة من الافكار والتضمينات الفلسفية التي تشتمل على معنى جوهري كقيمة ( الفكرة ) وخطورتها وأثرها البالغ على وعي ولا وعي الأفراد والجماعات على حد سواء ، حيث تصل خطورة هذه ( الفكرة ) او ( الفيروس ) الى خلق واقع متخيّل يفوق بواقعيته الواقع نفسه ويهيمن عليه كهدف نهائي ، والاختراق اجمالاً يمكن ان يتم بوسائط متعددة يكون فيها وعي الانسان ولا وعيه في حالة دفاعات بسيطة وضعيفة ، كما يحدث ذلك في عمليات غسيل المخ ، وفي بعض الممارسات الدينية ، وممارسة الالعاب العقلية بين طرفين ، والجنس كذلك.

تسعى الاستراتيجيات العالمية على المستوى الاقتصادي وكذلك على المستوى السياسي والايديولوجي دائماً الى تحصينات هائلة عبر وسائلها الثقافية والفكرية والاعلامية تحديداً من أجل جعل الانسان عموماً هدفاً لتلك الاستراتيجيات وليس موضوعاً لها ، لكن هذه الصناعة تحاكي وتقابل الحالة الواعية للانسان والطريقة المثلى للاحتيال عليه ، وذلك عبر نسخ الواقع الى صورة مزيفة عنه يتم الترويج لها وتضخيمها وبالتالي جعلها الحقيقة التي يتمحور حولها الوجود الانساني برمته ، كما يحصل ذلك بالنسبة لاستهلاك السلع وتحقيق المتع وكذلك بالنسبة لمبررات شن الحروب وافتعال الازمات السياسية في العالم بحسب الفيلسوف الفرنسي ( جان بودريارد ) 1929 - 2007 .

ان الفكرة المتبعة في فيلم البدء وان كانت فكرة من نفس النمط لكنها من أجل تحقيق أهداف ذاتية نبيلة وانسانية وكذلك من أجل تحقيق أهداف اقتصادية ضد الاحتكار ( العالم بحاجة لان يغير روبرت فيشر تفكيره ) وفي كلا الحالتين يبقى الانسان هدفاً لتلك الاستراتيجيات من خلال اللاوعي هذه المرة وعن طريق الأحلام وتكون الأفكار هي اللاعب الرئيسي لتحقيق تلك الأهداف ، حيث يكاد يتفق جميع الفلاسفة والمشتغلين في الحقل السايكلوجي والانثربولوجي على ان الأفكار ومهما تكن بسيطة لديها القدرة على احداث التغيير والاستمالة والتوجيه سواء على المستوى الذاتي او على المستوى الجماعي للافراد ، والشيء الأكثر أهمية واحترافاً هو كيفية تحويل تلك الأفكار وان كانت ذات طابع عقلي مجرد الى عاطفة ، وهو ما تراهن عليه جميع القوى العالمية مثلما يراهن عليه كريستوفر نولن خاصة وان الامر مرتبط باللاوعي لديه مما يسهِّل عملية تحويل الفكرة التي ترتبط بتفكيك شركة ( فيشر ) التجارية داخل الفيلم الى عاطفة فعلاً لان ( اللاوعي تحركه العواطف وليس المنطق ) .

كان ( كوب ) ليوناردو ديكابريو الذي يعمل لحساب شركة كوبول للهندسة في مجال سرقة أسرار الشركات الأخرى المنافسة عن طريق اللاوعي والأحلام ، قد فشل في مهمته امام ( سايتو ) كن وتانابي لمعرفة هذا الاخير بتفاصيل اللعبة مما جعل ( كوب ) يكون عرضة للتهديد بالقتل من قبل الشركة التي يعمل لحسابها ، فتكون صيغة الاتفاق الجديد مع ( سايتو ) من أجل التخلص من هذا التهديد وتحقيق عودته الى اطفاله في امريكا الممنوع من الدخول اليها بسبب قضية جنائية تخص زوجته ، هي جعل الهدف ( روبيرت فيشر ) سيليان مورفي يسعى الى تفكيك امبراطورية أبيه الاقتصادية في مجال الطاقة بدلاً من الحفاظ عليها ، كونها الشركة الوحيدة التي تسيطر وتحتكر سوق الطاقة في العالم امام شركة ( سايتو ).

تتلخص الآلية المتبعة لتحقيق هذا الهدف في لا وعي ( فيشر) الأبن بمقترحات سردية ذكية ، يأتي المقترح من شخصية المنتحِل ( إيمز ) توم هاردي على شكل مغذيات إيحائية يتم توزيع كل إيحاء على طبقة محددة داخل الحلم . تأخذ الطبقة العليا من الحلم صيغة ( لن أتّبع مسيرة أبي ) ثم يليها الايحاء الآخر في الطبقة الثانية ( سأصنع عملي الخاص ) وفي الطبقة الدنيا او العميقة يأتي إيحاء ( أبي لا يريدني ان أكون مثله ). وفقاً لهذه المغذيات الثلاث تتحقق عملية الاختراق ويحصل القصد بالنهاية . وفي هذه الفكرة تحديداً يكون نولن قد استخدم تأويلاً فلسفياً ومحاكاة لفكرة فلسفية أخرى تعود الى الفيلسوف الفرنسي الآنف الذكر، وتبرز عبقرية هذا المخرج اضافة الى عنايته المركزة والفائقة بالجانب الفني والاخراجي والتقني للفيلم ، فهو ايضاً نقل الفكرة من حيز استخدامها في فضاء الوعي عند ( بودريارد ) الى حيز استخدامها في فضاء اللاوعي ، بمعنى آخر جعلنا أمام قيمتين محيرتين في التكافوء هما قيمة الواقع وقيمة الحلم ، وما سيترتب على ذلك من أثر في حال تم ترجيح احدهما على الآخر او تم إجراء مفاضلة فيما بينهما ، وبذلك تكتمل الفصول لدينا كمخاطبين جميعاً بفكرة ( الواقع المتخيّل ) او البديل ، في كلا العالمين ، وواقعين تحت تأثيره .

يرى بعض منظري ( الواقع الافتراضي ) * ان ما يتفرع عن الواقع بعد تصنيعه وتجريده من نفسه كمرجعية هو عبارة عن صور وممارسات مزيفة عنه على صعيد عالم الاتصالات واستهلاك السلع وتحقيق المتع ، فالناس تسعى لتحقيق المتعة والاستهلاك في هذا العالم المُصنّع بغض النظر عن القيمة المترتبة على ذلك من الناحية الاخلاقية والسياسية والاقتصادية ، وفي ذلك حسب وجهة نظرهم قتل لفكرة جوهرية اسمها الواقع الأصل او المرجعية وتنامي المتخيّل والمشبه به او المفرط بالواقعية ، وهي فكرة جانبت الكثير من الحقائق التي إتسم بها عصر ما بعد الحداثة واصطبغت به حياة المجتمع الغربي عموماً. 

ان الترجيحات - كقيمة وليس ترجيحاً مكانياً - بالنسبة لـ ( كوب ) بين الواقع المتمثل بعودته الى اطفاله  والواقع الافتراضي في الاحلام والذي تحضر فيه الزوجه المنتحرة كاسقاط ، ليست ذات مبررات عقلية قوية سوى ان الواقع يحتفظ له بطفلين مثلما الحلم يحتفظ له بزوجة يحبها حدّ الجنون ، وامكانية البقاء في عالم الحلم متوفرة وبالاسلوب الذي يساوي مقاصد الانسان في تحقيق المتعة والعيش بكثافة وسحر اكثر، وهو ما دفع مجموعة صانعي المتاهات وزرع الافكار يدخلون اللعبة برغبة اكثر من رغبة الحصول على المال والبقاء في الواقع . ان الزوجة والاطفال ليسوا مبررات عقلية كافية لخوض عملية الترجيح والمفاضلة واذا كان عنصر الحب يتحكم في هذه المعادلة فالحب نفسه يتوزع بين عالمين متناقضين من حيث طبيعة الوجود فيهما ، فلماذا اختار( كوب ) عالم الاطفال ولم يختر عالم الزوجة والحبيبة ؟ .

كانت ثيمة أصالة الواقع هي الفكرة المسيطرة ايضاً على ( كوب ) من خارج الفيلم ومخترق بها من نفسه مما دفعته لترجيحها على البقاء في دائرة الاحلام التي تفوق بإغرائها الواقع بمجمل التفاصيل ، ورغم ان حالة كهذه لا يمكن حسمها وفق منطق الواقع واللاواقع والاختلاف فيما بينهما فقط ، بل تعود بالحسم لعنصرالايمان على وجه الخصوصً وليس لوجود فارق على مستوى الشرف بالرتبة بين العالمين ، لاننا معبأون بفكرة ان الواقع الفيزيائي هو ما يغطي طموحنا في الوجود حتى وان كان هذا الواقع أقل درجةً مما نريد الوصول اليه والاقامة فيه ، وهذا ما يفسر نزوحنا جميعاً عكس إتجاه وقوع الموت مثلاً ، وكذلك نزوحنا عكس إتجاه سير الأحلام ونريد ان يحضر ما يشتمل عليه اي عالم آخر من الجمال والسحر الى عالمنا الفيزيائي ، فنحن مخترقون سلفاً بفكرة رجحان أصالة الواقع على اية فرضية اخرى مثلما هو الحال مع بطل البدء ، والايمان هو ما يجعل عملية الترجيح قائمة ومقبولة لدينا ولا يوجد مبرر منطقي يمنع ترجيح عالم الحبيبة على عالم الاطفال ، اي ترجيح عالم الحلم والافتراض على عالم الواقع ، وبالتالي لا يمكن التخلص من الوقوع بالوهم بالنسبة لنا جميعاَ .


* يعود هذا المفهوم للفيلسوف الفرنسي ( جان بودريارد ) ، وهو دلالة على ثقافة ما بعد الحداثة في أوربا ، ومؤشرعلى طبيعة الحياة الغربية المعاصرة ودرجة تأثر المجتمع بتصنيع الواقع المُعاش على كافة المستويات وتحويله الى نسخة مشابه بل اكثر واقعية من الواقع نفسه مما يجعل التمييز بينه وبين الواقع الحقيقي امراً صعباً للغاية .


ليست هناك تعليقات: